الصحة والستر نعمتان من أعظم النعم التي أنعم بها المولى عز وجل على عباده، ونعم الله لاتعد ولاتحصى.. تصور عزيزي القارئ إن كان معك مال قارون لكنك مريض بداء عضال، تحيَّر الأطباء في علاجه؟ فهل ينفعك مالك حينئذ! فالصحة تاج على رأس الأصحاء لايراه إلا المرضى!.
نعم فالصحة أعظم النعم وهذا ما كان حال سارة، فتاة في مقتبل العمر، من عائلة متوسطة الدخل، تعيش مع عائلتها المكونة من أب وأم وثلاثة أشقاء.
كانت سارة قد أكملت دراستها في معهد المعلمات، وبعد انتظار طويل لطابور أسماء المرشحين للتعينات، لقد حالفها الحظ في حصولها على موافقة التربية لتعينها في نواحي المحافظة، معلمة في إحدى المدارس الإبتدائية، لم تتمالك سارة نفسها من فرحة حصولها على تعين لأنها كانت من أسرة ذات دخل محدود، والمرتب الذي سوف تجنيه، يُساعدها في حل بعض الأمور المعلقة والتي كان والدها يؤجلها دائماً بسب قلة دخله، وكانت أيضاً تتملكها رغبة الشعور بثمرة تعليمها حال كل الخريجين..
ورغم بعد مسافة المدرسة عن دارها، والدوام اليومي ونهوضها مبكراً لكي تستطيع الوصول في الوقت المحدد، كانت نموذجاً للإلتزام والإجتهاد في توصيل المادة العلمية للطلاب، وأصبحت المدرسة بيتها الثاني.
بعد مرور عام تقدم لها شاب يحمل كل الصفات التي كانت تراها في زوجها المستقبلي، ذو أخلاق نبيلة وهو أيضاً من الأسرة التربوية، وفعلا تمت الموافقة عليه من قبل ذويها، ولكن في داخلها هواجس حزينة، كلما تُقدم على شراء جهاز العرس تَقول لوالدتِها أمي لا اعلم أشعر ان صدري مقبوض وتصبرُها والدتها وتقول لها لماذا هذا التشاؤم توكلي على الله يا ابنتي.. كل فتاة ينتابها القلق في فترة الخطوبة أبعدي عنكِ هاجس القلق، ولكن سريان أمور الزواج بصورة صحيحة وفرحتها بخطيبها يكذب ماتشعر به أيضاً! كان زواجها مكلل بحضور أقرباء العروسين، وكانت هي كالقمر الزاهر وكانت تعلو الفرحة وجوه الجميع.
وبعد مضي شهر على زواجهما بدأ عليها اعراض الحمل اتصلت بوالدتها لتقول لها: أمي ألا تعتقدين أن هذا الحمل مبكر، فقالت والدتها: لماذا هذا التشاؤم يا إبنتي!! بالعكس شاء الله ان يكمل فرحتُك أنرفض نعمة الله!.
وهكذا أغدقتها الحياة بعطاياها الجميلة، ورزقها الله من فضله بمولود ذكر كفلقة القمر، وفي صباح يوم ليس كسائر الأيام بدأت قصتها الحزينة تلوح في أفق حياتها لتسرق منها بهجة الحياة إذ نهضت سارة لتحمل صغيرها وإذا بها تصرخ من شدة الألم، آه آه ساقي لا أستطيع التحرك، ثم بدأ الألم يختفي تدريجيا، ولكن أصر زوجها على معاينتها من قبل الطبيب المختص، لم يتوانى الطبيب في قراره بعد أن شاهد صور الأشعة والتقارير، وحينها أخبرها يجب ان تجري عملية فوراً بسبب تشابك الأوردة وانها عملية بسيطة ولا داعي للمخاوف والقلق، ثم قام بتحويلها لطبيب جراح..
في هذا اليوم الذي كانت ليلته أطول من كل الليالي التي مرت عليها إذ لم تنم، وأخذت تناجي الله ان ينجح عمليتها لترجع الى ولدها ذو الثلاثة اشهر والذي لم تكاد تشبع من رؤيته، وتبقى معه الى آخر مشوار من حياته الدراسية وتقر عينها بعد ذلك بزواجه.. أمنيات الأمهات التي ليس لها حدود، وعند دخولها المستشفى لإجراء العملية، هُيأت لتدخل صالة العمليات، وهي في طريقها الى الصالة لأجراء العملية، ممسكة بذراع زوجها من اليمين، وذراع اخيها عن اليسار، وشفاهُها تَترنم بالدعاء وقراءة آيات من القرآن الكريم ثم تصمت لدقيقة من الدعاء، وهي تنظر عن شمالها، وتارة عن يمينها في عيون أهلها كأنها لحظات فراق لاعودة بعدها.
وفي لحظات ترقب لخروجها من باب صالة العمليات، كان الصمت يخيم على الجميع في ترقب وقلق، لقد تأخر الوقت المحدد لإجراء العملية، ثم خرج الطبيب الجراح والحزن يعلو وجهه، وهو يقول: حالتها حرجة ادعو الله يلطف بها، تصاعد صوت الصراخ والبكاء من كل المتواجدين في صالة الانتظار، لماذا دكتور ما السبب؟!
أجاب الطبيب: لقد قطع وريدها الرئيسي بسبب خطأ طبي ولم نستطع وقف النزيف!.
أخذ زوج سارة بالتهديد والوعيد للطبيب بسبب خطئه الشنيع، ولكن في النهاية قال في نفسه هذا لن يجدي نفعاً يجب أن ننقذ حياة سارة وأخذ يُهدأ الجميع، ويقنعهم أن هذا قضاء وقدر.. وفي هذا الجو الكئيب صارح أحد الأطباء والدة سارة بأن هناك بصيص أمل في إنقاذ سارة!! فيما استطاعت السفر الى خارج العراق وبالتحديد الى لبنان الى (مستشفى الجامعة الامريكية) وعرضها على مشاهير الأطباء في ذلك المستشفى، وحينها عرضت أم سارة رأي الطبيب في السفر الى الخارج على زوج سارة، إستسلم زوجها لإرادة الله ومشيئته وقال لها:
أنا موظف صغير لا املك سوى راتبي من أين لي هذا المبلغ الكبير من المال؟!
وكيف اُدبر نفقات السفر والعلاج؟
وبسبب كلفة العلاج المرتفعة، اتفق كلا الطرفين من اهل الزوج وأهل سارة على إجراء معاملة السفر بأقصى سرعة، والتعاون فيما بينهم بمبلغ العلاج ومساعدة زوج سارة وجمع مايمكن جمعه من المال والسفر الى لبنان لإكمال العملية، لقد باع زوج سارة كل مالديه حتى غرفة النوم والذهب، وجمع ماتمكن من جمعه من الاقارب، ولكن طبيب سارة رفض اكمال اوراقها وخروجها من المستشفى!.
وذلك لأنها تنزف بإستمرار، فقال الزوج: أوقع على أوراق خروجها من المشفى على مسؤوليتي ونسافر، وفعلاً نقلت سارة في سيارة الاسعاف الى المطار مباشرة هي وقناني الدم والاوكسجين، طبعا حُجز وحُددَ لها موعد مع الطبيب الامريكي عن طريق الانترنيت في وقت مسبق، كانت حالة سارة يرثى لها، كانت فاقدة الأمل وكان يمر امام عينيها شريطا مصوراً كأحداث مابعد العملية وابتعادها عن طفلها، وخوفها وألم فراقه وحرمانها منه في حال لم تنجو من هذه العملية.
وفي مطار لبنان كانت هناك نقالة اخرى تنتظرها لنقلها الى المستشفى، وبعد ثلاثة ايام في غرفة الأنعاش في مستشفى الجامعة الامريكية في لبنان، كانت الصدمة الكبرى.. قرر الطبيب بتر ساق سارة وإلا ستبقى تنزف حتى الموت، سقط الزوج على الأرض من أثر الصدمة، وسبقتها احلامه، وضجّ الممر بالبكاء والنحيب من كلام ام سارة وهي تصرخ وتقول: (ابنتي عروس نبتر ساقها) ماذا سأقول لها عندما تصحو من البنج، كيف تذهب لمدرستها كيف تمارس حياتها كأم وكزوجة وكيف وكيف؟.
تلك هي سنة الحياة حيث تمنح وتسخو وتبخل وتعطي وتمنع فتتساوى الأقدار في النهاية.
نعم بترت ساق سارة وبترت معها كل الاحلام الجميلة واصبح هاجس تخوفها من قبل الزواج صحيحا، وبعد يومين أفاقت سارة من البنج وهي تقول: أمي اريد ماء أمي أنهضيني خذي بيدي، أمي ساقي ثقيلة.. وأم سارة تغمر عيونها البكاء، وتحاول أن تفاتحها بالأمر ولكن لا تقدر.
فلم يكن أمامها خيار إلا ان يخبرها الطبيب وبحضور زوجها الذي كان يحبها كثيراً. وما كاد الطبيب ينهي كلامه حتى انطبق لسانها وبدأت تسيل دموعها بعينين واسعتين تارة تبدو عليها السؤال وتارة تعجب!.
ثم غابت عن الوعي... ولكن بمرور الأيام بدأت تستسلم شيئا فشيئا وأخذ منها الشوق مأخذه، فتلهفها وشوقها لطفلها بدأ يخفف عليها صدمتها بالرجل المبتورة، وبدأ اعتيادها على تراكم الاوجاع الذي لامفر منه ُولكن كانت لحظة ظهور الكرسي المتحرك امام عينيها لأول مرة اصعب حدث على قلبها، وهي تدير بعينيها الذابلتين لزوجها وتحدثه في نفسها، هل تقبل بزوجة مقعدة أم تتزوج علي بعد هذا، كيف استطيع ان أحمل صغيري؟ بل كيف لي أن أحممه كيف أستطيع أن أقدم ما لذ وطاب من مأكولات لزوجي الحبيب؟.
ولكن كان زوجها يخاف الله فيها، وأخذ يخفف عنها وهو يقول أنا احملكَ تشككيين بقدراتي، ووجهه ضاحكٌ مُبكي، ثم اذن لها الطبيب بالخروج بشرط المراجعة بعد ثلاث شهور من العملية.
سارة اليوم مقعدة على كرسي متحرك بسبب خطأ طبي وإهمال في تشخيص حالتها، وكان الثمن المدفوع غاليا، هدمت أسرة بكاملها خسرت سارة وظيفتها وعشها الصغير وطفلها الذي لم تستطع حتى حمله ومداعبته كبقية الأمهات.
لذلك أغلبية المرضى لم تعد لديهم ثقة ببعض الأطباء بسبب كثرة الأخطاء الطبية، ويضطرون الى السفر خارج العراق لتلقي العلاج، والمستفيد الاكبر تلك المستشفيات لأنها تستنزف أموال المراجعين من المرضى وذويهم.
سارة فتاة مؤمنة راضية بقضاء الله وقدره، قررت الاعتياد على حياتها الجديدة، ولكن بأحلام مبتورة وأثاث عرس يفقدُ عروسه المقعدة على كرسي متحرك، وكانت تردد دائما في نفسها قضاء أرحم من قضاء.
لأنها اكتفت حتى لو بنعمة النظر إلى طفلها فحمدت الله على كل حال.
تلك هي الحياة يوم حلو، ويوم مُر وليست نزهة خلوية في بحر هادىء الأمواج وإنما هي دائماً أفراح وأتراح ونجاحات وإخفاقات، وإنتصارات وإنكسارات وإنه كما يحق لنا أن نسعد بأوقات الأنتصار فإن من واجبنا كذلك أن نتقبل هزائمنا وإنكساراتنا.
اضافةتعليق
التعليقات