عندما كنت أبحث عن رواية معينة للامام الصادق صلوات الله عليه لفتت انتباهي قصة عميقة المعاني وهي معروفة بشكل كبير ولكن هذه المرة كأني اسمعها لأول مرة!.
وهي قصة ذلك الرجل من أهل خراسان وهو سهل بن الحسن الخراساني اذ دخل على الامام الصادق عليه السلام فسلم عليه ثم جلس، فقال له: يا ابن رسول الله لكم الرأفة والرحمة وأنتم أهل بيت الإمامة ما الذي يمنعك أن يكون لك حق تقعد عنه وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف.
فقال له عليه السلام: أجلس يا خراساني رعى الله حقك، ثم قال: يا حنيفة إسجري التنور فسجرته حتى صار كالجمرة وابيضّ علوه.
ثم قال: يا خراساني قم فاجلس في التنور.
فقال الخراساني: يا سيدي يا ابن رسول الله لا تعذبني بالنار أقلني أقالك الله، قال: قد أقلتك، فبينما هم كذلك إذ أقبل هارون المكي ونعله في سبابته.
فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله.
فقال له الامام عليه السلام: ألق النعل من يدك واجلس في التنور، فألقى النعل من سبابته ثم جلس في التنور، وأقبل الإمام عليه السلام يحدث الخراساني حديث خراسان حتى كأنه شاهد لها، ثم قال: قم يا خراساني وانظر ما في التنور قال فقمت إليه فرأيته متربعاً فخرج إلينا وسلم علينا.
فقال له الإمام عليه السلام كم تجد بخراسان مثل هذا؟
فقال: والله ولا واحداً.
فقال عليه السلام: لا والله ولا واحداً، أما إنا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا نحن أعلم بالوقت ١.
القصة معروفة ولكن هذه المرة قرأتها بعمق أكثر، عندما تتمعن في سيرة الامام جعفر الصادق عليه السلام تجد إن خواص أصحابه وتلاميذه هم من فطاحل العلماء والفقهاء!.
كان الامام الصادق عليه السلام لايريد جنود وثوار بل يريد علماء فقهاء فهم سلاح أقوى وأشد من الحديد الصلب أمام ذلك التيار الذي يجرف الأمة إلى هاوية الهلاك بإسم الدين ويقوده فقهاء السوء، فكان عليه السلام يربي جيل من العلماء والفقهاء يحاربون تلك التيارات السياسية التي لها طابع الدين بالمناظرات وحلقات النقاش وبالكلمة والقلم لا بسهم أو سيف!.
فالكلمة لها أثر أشد من سنان الرماح، لذلك كان صلوات الله عليه دائم الحرص على الحث والترغيب في التفقه في كل مناسبة وفتح باب التعلم وحلقات الدروس والمناقشات العلمية التي تحولق حولها آلاف التلامذه وطلاب العلم من جميع الأقطار، وعنه عليه السلام [تفقّهوا في دين الله، ولا تكونوا أعراباً، فإنّ من لم يتفقّه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزكِّ عمله]
كان الامام جعفر الصادق عليه السلام مبتلى كـ باقي الائمة بقلة الناصرين ولكن صنع لنا علماء فقهاء ثقاة ذو دين وعقيدة وقدوة ونموذج للعالم العابد المخبت لامامه بكل جوارحه وجوانحه الذي إلى يومنا هذا أغلب الروايات مروية عنهم من الامام عليه السلام ليكونوا لنا المرجع والارشيف الحي ويحفظوا تاريخ آل محمد صلوات الله عليهم ويهدون الضالين للصراط المستقيم.
الفقة هو الحصن المانع للانسان الذي يقيه من مضلات الفتن وهو دعامة الدين حيث قال
صلى الله عليه وآله وسلم: [إنّ لكلّ شيئ دعامة، ودعامة هذا الدين الفقه] ٣.
وليس المراد التفقة وتعلم الاحكام الشرعية والعلوم الدنيوية فقط ولكن الأساس هو العمل به بما يرضي الله عزوجل فعن أمير المؤمنين عليه السلام [أيها الناس إعلموا أنّ كمال الدين طلب العلم والعمل به، وأنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال ]٤.
فقد نشأ من نور الامام الصادق عليه السلام تلامذة وعلماء من شتى العلوم ومنهم أرباب المذاهب الأربعة، ولم يتعدى أحدهم أكثر من سنتين فقط في ظل علم الامام ولكن كيف كانت عاقبتهم؟!
الفقة الذي يأمر به الله عزوجل هو فقه أهل البيت صلوات الله عليهم وذلك لأنه تمام الدين وكمال العبودية، فالعبادة بدون علم مجرد هباء منثور.
كما قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه [لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه]٥.
لأن الفقة لوحده دون العمل به لا يجدي نفعاً بل يجب أن يكون العمل بما أمر الله والعلم هو من يقود المرء للعبادة التامة.
الفقة نور الله الصادق الذي يُخرج الإنسان من ظلمات الطاغوت ويكسيه الفضائل ومكارم الأخلاق لأنها تكون نابعة من معرفة وليست فقط محصورة بالعبادة، كما روي عن أمير المؤمنين [الورع شيمة الفقيه]٥، فالفقة دستور ومنهج لعلاقة العبد بربه وكذلك للعلاقات الإجتماعية بين المرء وباقي الأفراد وحفظ الحقوق ومراعاة الحرمات.
لذلك نجد العشرات من الآيات الكريمة التي تحث على العلم ودرجة العلماء وكذلك المئات من الروايات والأحاديث عن أهل البيت عليهم السلام في الحث والحرص على التفقة والعلم والعمل به وعدم الوقوع في فخ الضياع والانقياد الأعمى لشر خلق الله حتى نكون أهلاً للظهور العظيم وفرج الله القريب باذن الله.
اضافةتعليق
التعليقات