في يومٍ لا ينفع مالٌ ولا بنون، لا نستطيع أن نخلق الأعذار، فنقول: لم يكن ذنبي، بل ذنب عيني ولساني وفؤادي، بل كما ورد في الآية المباركة:
﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾.
وكما أن كل راعٍ مسؤولٌ عن رعيته، فإن رعاية الجوارح والجوانح من واجب الإنسان.
ما ينظر إليه الإنسان، حتى وإن لم يضع “الإعجابات”، يساهم في رفع عدد المشاهدات، ويزيد من درجة نجاح الجهة المعنية، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشرّ.
وسوف نندهش أكثر لو علمنا أن حتى صمتنا يؤثر على الكون، ويزيد في السعادة أو الشقاء حسب أصل الشيء وجوهره.
لذلك من الجميل أن نشير إلى قول مولانا الإمام الباقر (عليه السلام)، عالم آل محمد، حيث قال:
“إن الله عز وجل أوحى إلى شعيب النبي (عليه السلام): إني معذِّبٌ من قومك مائة ألف؛ أربعين ألفًا من شرارهم، وستين ألفًا من خيارهم.
فقال: يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟
فأوحى الله إليه: أنهم داهنوا أهل المعاصي، ولم يغضبوا لغضبي.“¹
فهناك خلطٌ بين المداراة والمداهنة في أذهان الناس؛ فأحياناً يظن الفرد بأنه يُداري الطرف الآخر، لكنه في الواقع يُسانده في ظلمه وظلم الآخرين.
فيكون من صنّاع الظلام الفُجّار، أو يركن إلى الحكّام الفاسدين، فيُشارك في الإفساد ويشجع الفاسدين على فسادهم.
بينما المداراة سلوكٌ إيجابي يُساق به المخطئ إلى الإصلاح، أما المداهنة فهي تشجيع وتحفيز على الظلم.
وقد روى أبو عثمان الجاحظ عن جُلام بن جندل الغفاري، قال:
كنتُ عاملاً لمعاوية على قنسرين والعواصم في خلافة عثمان، فجئتُ إليه يوماً أسأله عن حال عملي، إذ سمعت صارخاً على باب داره يقول:
“أتتكم القِطَارُ بحَملِ النار، اللهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له.”
فازبأر معاوية وتغيّر لونه، وقال: يا جُلام، أتعرف الصارخ؟
فقلت: اللهم لا.
قال: من عذيري من جندب بن جنادة؟ يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت. ثم قال: أدخلوه.
فجيء بأبي ذر بين قومٍ يقودونه حتى وقف بين يديه، فقال له معاوية: يا عدو الله وعدو رسوله، تأتينا كل يوم فتفعل ما تفعل؟
أما إني لو كنتُ قاتلاً رجلاً من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك، ولكني أستأذن فيك.
قال جُلام: وكنت أحب أن أرى أبا ذر، لأنه رجلٌ من قومي، فالتفتُّ إليه فإذا رجلٌ أسمر، ضاربٌ من الرجال، خفيف العارضين، في ظهره حناء.
فأقبل على معاوية وقال:
ما أنا بعدوٍّ لله ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله. أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر.
ولقد لعنك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودعا عليك مرارًا أن لا تشبع.
سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
“إذا وَلِيَ الأمّةَ الأعْيَنُ الواسعُ البلعوم، الذي يأكل ولا يشبع، فلتأخذ الأمةُ حذرها منه.”
فقال معاوية: ما أنا ذلك الرجل.
قال أبو ذر: أنت ذلك الرجل، أخبرني بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسمعته يقول وقد مررتُ به:
“اللهم العنه، ولا تُشبعه إلا بالتراب.”
وسمعته يقول: “أسيتَ معاوية في النار.”
فضحك معاوية وأمر بحبسه، وكتب إلى عثمان فيه، فكتب عثمان إلى معاوية:
“احمل جنيدبًا إليَّ على أغلظ مركبٍ وأوعره.”
فوجه به من سار به الليل والنهار، وحمله على شارفٍ ليس عليها إلا قَتَب، حتى قُدِّم به المدينة، وقد سقط لحم فخذيه من الجهد.
فلما قدم، بعث إليه عثمان: أنِ الْحقْ بأي أرضٍ شئت.
قال: مكة.
قال: لا.
قال: بيت المقدس.
قال: لا.
قال: أحد المِصرين.
قال: لا.
قال: ولكني مُسَيِّرك إلى الرَّبذة.
فسيّره إليها، فلم يزل بها حتى مات.²
كان أبو ذر دائمًا يرفع صوته بالحق، ولم يرضَ بالظلم الأموي، حتى قضى نحبه في صحراء الرَّبذة وحيدًا. وكان ذنبه الوحيد أنه لم يُداهن السلطة الأموية.
وفي النهاية، نختم الكلام بقول الإمام الباقر (عليه السلام)، حيث نرى نحن أنفسنا: أين؟ وفي أي صنف؟ ومع من؟
"إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً، فانظر إلى قلبك، فإن كان يُحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته، ففيك خير، والله يحبك.
وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته، فليس فيك خير، والله يبغضك، والمرء مع من أحب.“³
إن الأمر أدق مما نظن؛ حتى الحالات القلبية محسوبة عند الله تعالى، فلا مجال للكذب والادعاءات الواهية.
قلوبنا مكشوفة أمام الله سبحانه وتعالى، وهو يعلم مدى وقوفنا مع الحق أو الباطل!
فلنراجع أنفسنا ليومٍ لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
⸻
اضافةتعليق
التعليقات