في سكون الليل حيث تهدأ الأصوات وتتلاشى ضوضاء الحياة، هناك لحظات يغمرها النور وسط ظلمات الوجود، لحظات يصبح فيها البحث عن المعنى رحلة إلى أعماق الروح في تلك اللحظات يلوح اسم الحسين (عليه السلام) كنبض خالد، كضياء لا يخبو، وكملاذ لمن ضاقت بهم الدروب، أتأمل صورته في كربلاء حيث امتزج دمه الطاهر بتراب الأرض ليكون شاهداً على أسمى معاني الحب الإلهي فأشعر أنني أقترب من نور لا يُدرك إلا بشوق عميق، نور يأخذ بيدي إلى سماء القيم العليا، حيث الحب ليس مجرد عاطفة بل رسالة خالدة تدعونا للثبات على طريق الحق مهما تكاثفت التحديات.
فحين يُذكر الحسين (عليه السلام) تهتز القلوب، وترتجف الأرواح كأنها تلتقي بنور لا ينطفئ، نور أضاء طريق الحرية والعدل، ورفع راية الكرامة في وجه الطغيان فلم يكن الحسين (عليه السلام) مجرد رجل في صفحات التاريخ بل كان ثورة متجسدة، وموقفا خالدا للرفض والتمرد على الظلم، وكان حبه انعكاسا لحب الله ورسوله.
ولكن كيف نحب الحسين حقاً؟
قد يطرح البعض هذا السؤال: فهل الحب مجرد دموع تُذرف في ذكرى عاشوراء أم فرحٌ مستمرٌ في إحياء أفراح أهل البيت، أو هو التزام عميق بمبادئه، ووقوف حيث وقف، وثبات على الحق مهما كلفنا الأمر.
فيجيبنا حديث النبي (صلى الله عليه وآله): "من أحبني فليحبهما"، وقوله "من أحب الحسن والحسين أحببته ، ومن أحببته أحبه الله"، في إشارة إلى الحسن والحسين عليهما السلام، و لم تكن هذه مجرد كلمات تُقال بل كانت دعوة صادقة للارتباط الروحي والعملي بأهل البيت ليس فقط في محبتهم بل في جعل قيمهم منارة نهتدي بها في دروب الحياة فهم روح تسري في وجدان الأحرار ورمز لقيم لا تموت، ومعراج تتسلقه الأرواح نحو الله ليكون الحل هنا ميزان القيم في موقف وعمل وثبات فالحب ليس شعورا عابرا أو لحظة وجدانية فقط بل هو موقفٌ راسخ، وسلوك ينعكس في تفاصيل الحياة اليومية.
مراحل الحب الحقيقي: من الفكر إلى الفعل
إن حب الإمام الحسين (عليه السلام) ليس تقليدا متوارثا أو عاطفة سطحية بل هو تجربة روحانية تبدأ بالفكر وتنتهي بالفعل، وتمر بثلاث مراحل رئيسية:
1. الحب الذهني (المعرفة والإدراك):
يبدأ الحب بتكوين وعي عميق حول الإمام الحسين (عليه السلام)، وفهم رسالته السامية التي حملها للعالم، ليكون الحب بذلك إدراكا لحقيقة دوره في نشر العدل والحق، فإن حب المعصوم يقتضي فهماً كاملاً لفكره وسلوكه فإذا اراد المحب ان يحب المعصوم فلا بد من ان يطلع على حكمه وبلاغته وخطبه وان يلتمس طريقاً لفهم سيرته وتقواه وعبادته وانقطاعه لله سبحانه وتعالى ، فإذا احبه عن هذا الطريق فقد احب فيه جمال العبادة والتقوى وهو جوهر الحب للمعصوم .
2. الحب العملي (التجسيد في السلوك):
عندما يُبنى هذا الحب على معرفة صادقة، يتحول إلى التزام عملي، حيث يصبح الدفاع عن الحق، والعيش وفق القيم التي جسدها الحسين أسلوب حياة، فلا يقتصر الحب على العواطف بل يترجم إلى أفعال يومية تعكس مبادئه، حيث يقتضي ترجمة حب المعصوم الى عمل وهي محاولة المحب تطبيق ماقام به المحبوب من طاعة لله والابتعاد عن معصيته ،واقامة الفرائض واشاعة الاخلاق الكريمة بين الناس واستحضار سيرته والعيش في اجوائها العبقة.
3. الحب الوجداني العميق (التوحد الروحي):
يصل الحب في هذه المرحلة إلى أسمى درجاته، حيث يصبح الحسين عليه السلام جزءا من تكوين الإنسان الروحي والنفسي، فيشعر أن قلبه ينبض بمبادئه، وعقله لا يرى للحياة معنى دون أن يسير على خطاه وربما هذا هو الجواب لتساؤلاتنا حول لماذا نحب المعصومين ؟
فإن حب المعصومين عليهم السلام ليس مجرد ميل عاطفي، بل هو مصدر قوة روحية، يجعلنا نعيش بمعايير أسمى، ويمنحنا الوضوح في الرؤية، والقوة في مواجهة المحن، إنه حب يعيد تشكيل حياتنا على ضوء الحق والعدل ويجعلنا أكثر تضامنا وتكاتفا، حب يقربنا من الله لأنهم كانوا أقرب الناس إليه، وهو ليس مجرد ذكرى تُستعاد في المناسبات، ولا كلمات تُقال في المجالس، بل هو نور يسكن القلب، وطريق يرشد الحائرين، ويدٌ تمتد إلينا في أشد لحظات الحياة ظلمة ،هو الحب الذي يجعلنا نؤمن بأن الحق وإن كان غريبا فهو خالد، وأن النور وإن حاصرته العتمة لا بد أن ينتصر، إنه حب لا يموت متصلاً بالله يتجاوز الزمان والمكان ويجعلنا نحيا بكرامة ونسير بثبات على طريق الحق حاملين مشعل الهداية للأجيال القادمة
اضافةتعليق
التعليقات