هل يكمن السبب الحقيقي وراء النزعة الاستهلاكية الحديثة في التنافس بين الشركات الإنتاجية والعلامات التجارية التي تحاول بيعنا الأشياء والمنتجات؟ أو ربما يكون الهدف الكامن هو خلق المنافسة بيننا نحن أنفسنا كمستهلكين!
إن القصة التي يمكن سردها حول أصل الاستهلاك هي أن المسوقين والمعلنين أتقنوا تكتيكات لإقناعنا بشراء الأشياء، بعضها نحتاجه وبعضها لا نحتاجه. وهذا يشكل جزءاً مهماً من اقتصاد البلاد الرأسمالي الذي يركز على النمو؛ فكلما زاد إنفاق الناس، كلما كان ذلك أفضل للجميع. (بغض النظر عن أنهم ينفقون أحياناً أموالاً لا يملكونها، وبصرف النظر كذلك عن العواقب المترتبة على كل هذا الإنتاج والاستهلاك غير الواعي وما يتكدس من القمامة على هذا الكوكب). فالناس بطبيعة الحال يسعون لحيازة الأشياء ويرغبون بالشراء والتبضع بشكل مستمر دون التفكير بما يكمن وراء تلك الرغبة.
إن الاستهلاك اليوم يستند أيضاً على عوامل مجتمعية غالباً ما يتم تجاهلها. فنحن لدينا الدافع الاجتماعي "لمواكبة الآخرين"، أياً كان أولئك (الآخرين). وفي مجتمع متزايد التباين، يقوم الآخرين في مقدمة الهرم بالكثير من الاستهلاك، في حين يكافح الناس في القاع لمواكبتهم أو في نهاية المطاف يقاتلون من أجل الفتات.
يُعد التقبل المجتمعي لفكرة المنافسة والشره الاستهلاكي هذا عاملاً أساسياً يستغله المنتجون وأصحاب المشاريع الحديثة لضمان الحصول على التسويق الأمثل لمنتجاتهم الجيدة منها والسيئة، إضافةً إلى ما تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي من منصات تسويقية ممتازة يتهافت مستخدموها للترويج وركوب موجات الـtrend والجري خلف كل ما يُعرض فيها، وتُعد العدوى من الآخرين والرغبة في تجربة ما يجربونه بل والشعور بالدونية لإن المجتمع المحيط يعايش ويجرب شيئاً لا يجربه الشخص ذاته.
على سبيل المثال لا الحصر، (لإن هذا الأمر بات شغل العالم الشاغل، لا ينفك يظهر إعلان او منتج جديد حتى يتهافت الجميع على شرائه وتصويره والشعور بالإنجاز لحيازته)، نأخذ مثلاً (شوكولاتة دبي) التي اكتسحت العالم والأجهزة الرقمية وجننت العقول وسرت بين الناس مثل النار في الهشيم، فلم يبق شخص لم يرغب بتجربتها، غيرةً من أقرانه تارة، وفضولاً لتذوق شيء كان سبباً في كل هذه الضجة وأثّر في عقول الصغار والكبار. من جانب آخر يكثّف استجابة الناس في تحقيق هدف هؤلاء المنتجين من التسويق لمنتجاتهم، إذ شهدتُ بشكل مباشر الكثير من العوائل ممن يسعون لتجربة هذا المنتج. ولا أقول إن هذا أمر سيء بحد ذاته، بل بما يترتب عليه من برمجة اجتماعية تسعى لتنميط المجتمع وفق مبدأ الحمار والجزرة، إذ يبقى الناس في تطلّع مستمر لتلك الجزرة التي يواصل الجري خلفها دون وعي أو فهم.
يختلف العلماء حول كيفية تحديد تاريخ الاستهلاك. وأود أن أقول إننا بحاجة إلى العودة إلى الماضي قليلاً، وتحديداً إلى عشرينيات القرن العشرين، عندما شهدنا تطور الإنتاج الضخم، مما جعل بالتالي الاستهلاك الضخم ممكناً وفي متناول معظم طبقات المجتمع. وهذا المنظور يميز القرن العشرين عن الفترة السابقة، حيث كان التسوق والموضة الاستهلاكية رائجة. ولكن ما تغير بدءاً من عشرينيات القرن العشرين هو أن تكنولوجيات الإنتاج جعلت من الممكن إنتاج الأشياء بثمن بخس بما يكفي لجعل أغلبية السكان يستهلكونها بطريقة أسهل.
ولكن لماذا نشتري ونستهلك المنتجات، غالبًا بشكل يفوق حاجاتنا؟
إن العلماء لديهم إجابات مختلفة على هذا السؤال. فالاقتصاديين يفترضون أن السلع والخدمات توفر الرفاهية، وأن الناس يريدون تعظيم رخاؤهم. أما علماء النفس فيربطون ذلك بالأبعاد العالمية للطبيعة البشرية، والتي يربطها بعضهم بالديناميكيات التطورية. ولا أعتقد أن أيًا من هذين التفسيرين مقنعاً بشكل خاص.
كان الدافع الرئيسي للمجتمعات الاستهلاكية المعاصرة هو توسيع رقعة التباين بين طبقات المجتمع، وخلق طبقات اجتماعية غير متكافئة، مما جعل العديد من الناس يربطون الاستهلاك بالمكانة الاجتماعية، ومحاولة مواكبة وتطوير تلك المكانة. إن الناس لا يختبرون هذه الرغبة بالضرورة بهذه الطريقة ــ بل يختبرونها أكثر باعتبارها هوية أو رغبة طبيعية لإثبات الذات. ولكنني أعتقد أن سياقنا الاجتماعي والثقافي يجعل هذه الرغبة طبيعية بالنسبة لنا.
إن الزيادة في التفاوت تؤدي إلى ما يُسمى "الاستهلاك التنافسي"، الفكرة التي مفادها أننا ننفق لأننا نقارن أنفسنا بأقراننا وما ينفقونه. وقد يكون من الصعب مواكبة هذا التفاوت، وخاصة إذا كانت المعايير تتصاعد بسرعة.
كيف نتنافس مع بعضنا البعض على الاستهلاك؟
لدينا مجتمع منظم بحيث يرتبط التقدير الاجتماعي أو القيمة بما يمكننا استهلاكه.
وبالتالي فإن عدم القدرة على الاستهلاك يؤثر على نوع القيمة الاجتماعية التي لدينا. فالمال المعروض في صورة سلع استهلاكية يصبح مجرد مقياس للقيمة، وهذا مهم جداً بالنسبة للناس.
هل بات الدور الكبير الذي يقوم به الإنسان المعاصر في العالم هو الاستهلاك؟ وهل تحولت الحضارة المعاصرة إلى سوق واسع، تحكمه الأنظمة الإنتاجية والاستهلاكية، وقانون الربح والخسارة؟ وهل الشره الاستهلاكي نتاج لأزمة وجودية من إنسان لا يعرف غايته، ولا إلى أين ينتهي مصيره؟
كان حكيم الصين القديم (كونفوشيوس) يقول: "السيد يفهم ما هو صحيح، والرجل الصغير يفهم الربح"، أصبح الإنسان صغيراً بعد أن تحكم فيه منطق الربح وتعظيم المكاسب، وبات كل من يوقظ حسه ووعيه للتساؤلات الوجودية مكروها منبوذاً، لذا كانت الإعلانات الاستهلاكية ترفع شعار "لا تفكر.. لا تُشغل عقلك"، لذا عادت النزعة الاستهلاكية كل ميل إلى القراءة وتنمية الوعي.
في بحثه (حضارة السوبر ماركت- الاستهلاكية المعادية للإنسان) يقدم الباحث والمترجم (عبد الرحمن أبو ذكري)، قراءة عن تأثير الاستهلاكية على الإنسان وقيمه، بعدما تحول الحضارة المعاصرة إلى الجانب الاستهلاكي، ويكفي أن نشير أن الولايات المتحدة، رغم أن عدد سكانها لايزيد عن 5% من سكان العالم فإنها تستهلك أكثر من 20% من الإنتاج العالمي، إذ غابت معالم الحياة أمام هذا الاستهلاك، وأصبحنا أمام ما يمكن وصفه بـعصر السوبر ماركتGlobal Consumerism، إذ تسود نزعة لتقويم الأمور كلها بحسب قيمتها البيعية، في عصر يُعيّنُ سعرًا لكُلِّ شيء، ولا يعرفُ قيمة لأي شيء.
اضافةتعليق
التعليقات