في أوائل عام 2006، شاهدتُ محاضرة للأستاذ مورتن ل. كرينجلباخ عن الطرق المختلفة التي يشعر بها الناس باللذة، وبالتحديد علاقتها بالصحة والمرض.
الأمر يشبه تمامًا الملح: فالقليل منه لا يجعل الطعام لذيذًا، والكثير منه يفسد الطعم أيضًا، بينما الكمية المناسبة وحدها هي التي تجعل المذاق متوازنًا، ليتمكن النادل المسكين من الانتقال إلى الطاولة التالية.
ومن النتائج الغريبة التي توصل إليها العلم أن المخ قد لا يكون المسؤول الوحيد عن سعادتنا، بل إن للأمعاء دورًا في ذلك. فعلى الرغم من كثرة الأمثال التي تربط بين المخ والجهاز الهضمي، مثل: «أقصر طريق إلى قلب الرجل معدته» أو «لا أستطيع التفكير على معدة فارغة»، إلا أن المفاجئ هو وجود أدلة علمية متزايدة تشير إلى التأثير المباشر والقوي لوظائف الأمعاء على حالتنا الذهنية.
من المهم أن نتذكر أن المعدة والأمعاء ليستا مجرد أنابيب بسيطة لتمرير الطعام، بل هما نظامان شديدا التعقيد، يمتلكان جهازًا عصبيًا خاصًا يُعرف بالجهاز العصبي المعوي، القادر في بعض الحالات على العمل باستقلالية، ولهذا يُطلق عليه أحيانًا "المخ الثاني".
إضافة إلى ذلك، تعيش في أمعائنا عشرات التريليونات من البكتيريا، تنتمي إلى آلاف السلالات والأنواع، وتلعب جميعها دورًا في عملية الهضم، من خلال التحكم في المواد التي تدخل مجرى الدم وتنتشر في أنحاء الجسم. ومن الواضح أن لهذه البكتيريا تأثيرًا مباشرًا على حالتنا الداخلية.
وعلى الرغم من التطور المذهل للمخ وتعقيده، فإنه يظل عضوًا من أعضاء الجسد، يتأثر ليس فقط بما يأتيه من العالم الخارجي، بل أيضًا بما يحدث داخل الجسم من هرمونات، وإمدادات دم، ومستويات أكسجين، وغيرها من العمليات الفسيولوجية التي لا حصر لها. وبما أن الأمعاء والبكتيريا التي تعيش فيها تتحكم فيما يدخل الجسم، فمن المنطقي أن يكون لها تأثير – مباشر أو غير مباشر – على وظائف المخ. ومن هنا صاغ العلماء مصطلح «المحور المخي المعوي».
وتشير بعض الأبحاث إلى وجود ارتباط قوي بين نشاط الأمعاء وحدوث الاكتئاب والاضطرابات المزاجية. إذ يبدو أن وجود بعض أنواع بكتيريا الأمعاء قد يكون شرطًا مسبقًا للشعور بالضغط العصبي والاكتئاب. ورغم أن كثيرًا من هذه الأدلة مستمد من تجارب على الحيوانات، ما يجعل الجزم بوجود رابط قاطع لدى الإنسان أمرًا صعبًا، إلا أن الفكرة تبقى محتملة.
يُذكر أن نحو 90% من السيروتونين في الجسم – وهو ناقل عصبي ضروري للحالة المزاجية الجيدة – يوجد في الأمعاء. كما أن تصنيع النواقل العصبية يعتمد على مواد أولية تُستمد من الطعام، وتلعب بكتيريا الأمعاء دورًا أساسيًا في هذه العملية. وبالتالي، فإن أي خلل في توازن هذه البكتيريا قد يؤثر في كمية النواقل العصبية المتاحة للمخ، ومن ثم في حالتنا المزاجية.
ومع ذلك، فإن اختزال السعادة في عامل واحد، مثل بكتيريا الأمعاء أو السيروتونين، يتجاهل الطبيعة المعقدة لهذا النظام. فالسيروتونين الموجود في الأمعاء لا يرتبط بالضرورة بوظيفة السيروتونين في المخ بطريقة مباشرة أو مفيدة وظيفيًا، كما أن التركيز على عامل واحد يفتح الباب أمام تبسيطات مفرطة لا نهاية لها. والخلاصة التي يجب تذكرها هي أن ما يجعل أدمغتنا سعيدة يتجاوز تجاربنا البسيطة وتفضيلاتنا الشخصية.
ورغم ذلك، لا يزال البعض يصرّ على البحث عن حل بسيط لسؤال معقد: ما الذي يجعل الناس سعداء؟ وغالبًا ما تنشر وسائل الإعلام معادلات وصيغًا تدّعي القدرة على التنبؤ بالسعادة أو تحديد أسعد يوم في السنة، وهي محاولات محبطة في ضوء تعقيد الموضوع.
أحد أسباب هذه المحاولات هو ما يُعرف بـ«حسد الفيزياء». فالفيزياء والرياضيات تتمتعان بقوانين صارمة وقابلية عالية للتنبؤ، مما يسمح بصياغة معادلات دقيقة. أما العلوم الحيوية والنفسية، فهي تتعامل مع أنظمة أكثر مرونة وتعقيدًا، لا تخضع للقوانين نفسها. فالجسم الفيزيائي يتصرف بالطريقة نفسها في الظروف ذاتها، بينما يختلف سلوك الإنسان باختلاف المكان، والزمان، والحالة الجسدية، والنفسية.
ولهذا يسعى بعض الباحثين في العلوم الإنسانية إلى تقليد الفيزياء عبر صياغة معادلات للسلوك البشري والسعادة، رغم استحالة اختزال هذه الظواهر المعقدة في صيغ بسيطة. ومع إدراك كل هذه التعقيدات، يصبح واضحًا لماذا يُعد البحث في السعادة حقلًا مليئًا بالمصائد، ويتطلب حذرًا علميًا وفكريًا كبيرًا.








اضافةتعليق
التعليقات