إن نظرة عامة على الساحة العاطفية اليوم ترينا أن هناك حالة « فك ارتباط » شاملة ومتكررة في علاقات الحب العصري، وترينا أن ظاهرة الوفاء أصبحت أقصوصة خرافية ورواية غريبة تروى وكأنها عن أهل المريخ، وتكاد الواحدة تقول للأخرى .. من تحبين هذا المساء؟ ولا مانع من أن تتشنج الفتاة ويغمى عليها بكاء وحباً في كل مرة ..
وتبلغ هذه الحمى أشدها في المدن والسواحل وكافيتريات الجامعة .. ثم نراها تنحسر كلما نزلنا إلى الأرياف، أو توغلنا في الصعيد الجواني، أو رحلنا مع البدو .. ونرى أنفسنا نعود مع البداوة إلى الأصالة والوفاء وثبات العاطفة .. ونسمع عن عشاق أقاموا على حبهم حتى الموت .. ولا تمر خيانة زوجية دون قتل ودون دم .. ونرى الوفاء يعود فيكون هو القاعدة ، ونرى نفس هذا الوفاء في الريف الفرنسي والريف الإنجليزي والريف الألماني، كما نراه في جبل الدروز وجبل لبنان .. فإذا نزلنا إلى باريس ولندن وبيروت عدنا إلى نماذج التهتك التي نراها في القاهرة وروما ومونت كارلو .. ورأينا الحجاب يسقط كما يسقط الحياء .. ورأينا فتيانا وفتيات يعشن حياة أشبه بعـروض « الستريب تيز ».
ويبدو أن للمناخ العام أثراً في تشجيع صفات معينة في النفس وإجهاض صفات أخرى .. ففي الريف المناخ العام هو مناخ وفاء .. يلقى الفلاح البذرة في الأرض، فلا يخونه المطر ولا يخونه النيل ولا تخونه الشمس، وإنما يجد الوفاء بالوعد هو القاعدة عند الجميع .. وإذا اجتهد في الحرث والري أعطت الأرض ثمارها في الميعاد دون غدر .. ثم إن كل شيء يسير ببطء وهوادة دون هرولة ودون انفعالات ودون مفاجآت .. وتتجاور العائلات وتتزامل وتتصاحب وتتقاسم الخير والشر حتى الموت .. فلا عجب إن أثمر هذا المناخ وفاء عند الناس الذين يعيشون فيه.
ويختلف الأمر تماماً في مدينة على الساحل يحج إليها السياح كل يوم، وتلقى البواخر بأطنان من النساء والرجال من هواة المتعة، وطلاب التغيير على الشاطئ بين ساعة وأخرى .. والكل يتسابق إلى الدفع في سبيل اصطياد لذة جديدة.
كما يختلف الأمر في كافيتريا بالجامعة تتداول عليها طوابير طوافة من المراهقين والمراهقات، وتطن فيها الغرائز والشهوات طنين النحل في خلية .. وتلتهب الأنظار والأسماع بما ترى وتسمع. ثم حياة المدن .. التي لم يعد فيها الإنسان ينتظر من السماء شيئا .. وإنما أخذ زمام الأمر في يده وبدأ يدير كل شيء بالأزرار والرادار والأقمار الصناعية، فخيل إليه أنه لا سماء هناك ولا رب ولا مهيمن سواه.. فألقى بالأوامر والشرائع والأعراف والتقاليد وراء ظهره، كما يلقى بتركة بالية وانطلق يعيش على هواه .. ولم يعد الواحد منهم يرى غير نفسه وغير ما يشتهي، وغير ما تأتي به اللحظة من حظوظ وملذات. وتلك هي الحياة المادية الصرفة.
وحينما يعيش الإنسان حياة مادية صرفة .. فإنه ينفصم تماما إلى لحظات .. وحالات .. ونزوات .. لا رباط بينها .. إلا استهداف اللذة .. والشهوات بطبيعتها سريعة الملل، سريعة الضجر طلابة للتجديد والتغيير لتظل على اشتعالها. ومن هنا تأتي هذه الحالة العامة من « فك الارتباط » المتكرر والعلاقات الطيارة .. ونرى الساحة وقد انقلبت إلى جبلاية قرود، تتلاقح وتتسافد فيها الإناث والذكور بلا قاعدة سوى لقاء المصادفة. والغريب أن النفس في هذه الحياة لا تزداد شبعاً، بل تزداد جوعًا ولا تزداد امتلاء، بل تزداد خواء .. ثم هي تنتهى إلى حالة من الظلمة الحيوانية والقسوة والبلادة .. ثم تنتهى آخر الأمر بفساد الفطرة إلى اليأس والجنون وطلب الانتحار. ولهذا نجد أعلى نسبة للمجون والانتحار في بلاد الترف والتحلل، والإشباع الجنسي مثل روسيا وأمريكا والسويد والنرويج .. ولا نجدها بين الذين يعيشون حياة الريف أو حياة البداوة أو حياة الجبل .. كما لا نجدها إطلاقاً بين أهل الإيمان، وأهل الوفاء وأهل المثل والقيم.
ويظل هؤلاء الماديون على غوايتهم لا يفيقون إلا على زلزال، أو طوفان أو بركان أو وباء مهلك، تعجز أمامه حيلهم ومعارفهم، فيتوقف الواحد منهم وقد شل عقله تماما وهو يرى قوة أخرى غير قوته، وإرادة أخرى غير إرادته تعمل في الكون. فإذا مضت الحادثة، وانصرف آخر عامل إنقاذ، عاد المسرفون منهم إلى عتوهم.. ورأيناهم يفسرون ما حدث بالعبث والقوى العبثية والعشوائية والمصادفات العمياء، وازدادوا بذلك عمى على عماهم، وفاتتهم العبرة، ونسوا التاريخ، ولم يفقهوا أن ما حدث كان صيحة إنذار .. ونفخة أولى في الصور .. ليصحو من يصحو ويفيق من يفيق .. قبل أن تأتى نفخة الصور الثانية فتكون الطامة ..
وتلك كانت رواية التاريخ التي تعددت فصولا. وتلك كانت قصة عاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط. وتلك كانت سنة الله في الأرض. ولن تجد لسنة الله تبديلًا ، وإنما الحب وروايات أهل الحب مثال من ألف مثال ..
والفطن اللبيب من يعرف كيف يقرأ التاريخ، وكيف يحل رموز حجر رشيد، ويفقه الحكمة الخافية والعبرة المستترة وراء الحوادث اليومية التي تبدو من السطح؛ وكأنها تداعى المصادفات .
اضافةتعليق
التعليقات