هذه الحالة النفسية التي تجعل من المستطاع كل حيـاة إيجابية فـوارة بالحركـة والنشـاطـ هـي مجـرد اعتـداد بـالنفس لا تشـوبه علـة، ولقـد أسموهـا احـترام الذات أو تقدير الذات أو الاعتماد علـى الـذات. سمهـا مـا شئت فهـذه الحالـة أو الاتجـاه النفسـي الإيجـابـي هـو الـذي يبـدد الشكوك والمخاوف ويبعث الأمل والثقة، ويُعد المرء على حالة تؤدي إلى أية محاولة ناجحة.
إذا توفرت للمرء ثقته بنفسه فقـد استطاع أن يستمتع بالسعادة وأن يحقق النجـاح في الوصول إلى أقصى ما تستطيع أن تحمله إليه قدراته الكامنة. ويكـاد كـل مـريض يلجـأ إلى الطبيـب النفسـي يشـكـو مـن فقـدان الثقـة بالنفس. وقـد اسـتطاع المشتغلون بعلـم الـنفس الـديناميكي (الحركـي) أن يكتشفوا ذلك منذ البداية. فلقد عبر عن ذلك بوضـوح الـدكتور ألفرد آدار حين قال: إن كل مريض بالأعصاب يحـاول عبثًا أن يتظـاهـر بأنه أكبر من حقيقته. فكل فرد يريد أن يكون ذا أهمية بالنسبة لنفسه ولغيره مـن النـاس. فإذا باءت هذه المحاولة بالفشل أو أحبطت أحس المرء بالشعور بالنقص وبأنه تافه لا أهمية له.
يصف علماء الطب النفسي عادة كل العقبات التي تعترض طريق الوصـول إلى البصيرة تحـت بنـد يسـمونه «المقاومـة». ويقضـي مـرضـاهم السـاعات وهـم مسترخون علـى أريكـة التحليـل مستغرقون في تحليـل مقـاومتهم.
وأظـن أنـه مـن المجدي أن نقضي القليل من الوقت في هذه المرحلة لاستكشاف حجـم وقـوة هـذه العقبة التي تعترض الطريق المؤدي إلى البصيرة والثقة بالنفس والسعادة. وتُعـرّف المقاومـة بأنهـا الميـل إلى نبـذ أيـة خـبرة أو تجربـة لا تتفـق مـع الصـورة العقليـة الـتي يحتفظ بهـا الشخص لنفسـه. إنهـا كفـاح داخلـي للمحافظـة علـى سلامة شخصياتنا مـن أن تُمـس. فالنـاس على استعداد للمعركـة بكل مخلب وناب حتى لا يروا العالم أو يروا أنفسهم بطريقة تخالف ما اعتادوا أن يروهـا بـه علـى الـدوام. فهـم لا يريدون التخلي عمـا ألـفـوه. وهـذا ناشئ عن حاجة في أغوار النفس لتحديد مكانهم واتجاههم وأن يروا الدنيا وأن يروا سلوكهم الشخصي متناسقاً ومتماشـيا مـع المنطـق والمعقـول. وفي كـل منـا هـذه الخصـلة ولـكـن إذا وجدنا أن مسلكنا يجعلنا غير سعداء. فهنا يصبح تغيير اتجاهنا النفسي لزاما علينا. وفيما يختص بمركب النقص فهذا يعني أن حالات اضطراب الأعصاب تميل إلى أن تبقى على نفسها ما لم يفعـل شـيء بخصوصها. ولا يستطيع أي امرئ أن يُخلص نفسه من أنماط سلوكه العصابية حتى يتغلب على مقاومته لتغيير صورته العقلية عن نفسه.
والعادة أن الإنسان إذا وصف نفسه بأنه فاشـل مـن الناحية الاجتماعية أو أنه من عبقريات المال أو أنه لاعب شطرنج ممتاز أو أنه ضعيف في الرياضيات أو .. أو .. إلخ فهو يتبع تعريفه لنفسه بطريقين: أولاً هو يعطي المثل تلو الآخر عن أشياء فعلها توضح تعريفه لنفسه. ويردف ذلك بإعطاء المسببات التي تفسر كيف وصل به الحال إلى هذا. وهو عادة ينحي باللائمة على الطريقة التي نشأ بها، ولكن الغالب أن يتهم الوراثة بأنها السبب الذي أدى إلى الشعور بعدم الكفاية.. فهذه هـي الحيـل الـتي يلجأ إليها كل إنسان ليحافظ علـى صـورته عن نفسـه مـن أي تغيير.
والحقيقة أن الناس لا تحب أن تغير تصـورهـا لـذواتها حتـى ولـو كـانـت هـذه الصـور الذاتيـة لا تُشجِّع. فقـد رتبـوا حيـاتهم اليوميـة وفقـًا لحـالاتهم النفسية واتجاهاتها، فأي تغيير في هذه الحالات أو الاتجاهات سيجر إلى تحـول وتغير كدهم اليومي. ومـن يـدري مـا يجـره عليهم هذا التغيير من أخطـار؟ وعلـى هـذا فكل إنسان يرى العالم والدنيا بطريقة تتفق مع حالاته النفسية واتجاهاتها. والعالم الـذي يـراه كـل إنسـان هـو مـرآة نفسـه. ولكـي يـكـون منسجماً مع نفسه فهو يدعم اتجاهاته النفسية بالتعبير عنها واقعياً وعملياً حتـى ولـو أدى ذلك إلى إيقاع الأذى بنفسه والتسبب في اضطراب أعصابه وتعاسته.
حينما تفكر في نفسك أنك شخص لا يستطيع أن يفعـل هـذا أو يفعل ذاك، فتصـورك يخلق نوعـًا مـن المقاومة لعمـل أي شـيء يناقض هـذه الحالات السلبية للنفس.
مثل هذا التفكير خليق بأن يقف عقبة في سبيل هضم أي نـوع مـن الخبرة والتجربة أو الممارسـة يمكـن أن تزيـد مـن فاعليتـك. هـذه الحالات السلبية قـد تحميك من محاولة المستحيل وبهذا تنقذك من الهزيمة ولكنها إذا كانت غير حقيقيـة واقعيـة فإنهـا ستعوق النمـو العادي والنضج. فإذا كانت حالات النفس واتجاهاتهـا تتناقض مـع شخصيتك بكاملها فستجعلك أشـد قصـوراً ممـا يلـزم وبهذه تصبح تعيسًا غير راض.
فـالنمو العقلـي أو الروحـي مـا هـمـا في الواقـع إلا عمليـات هضـم للـخـبـرات الجديدة فهما من بعض النواحي يشابهان النمو الجسماني. فماذا يحدث للطفل حين ينمو؟ حين يصـل الطفـل إلى هـذا العـالم يصـل بشخصية منظمـة.
يقول الدكتور الراحل «والترب كانون» العالم في وظائف الأعضاء ذائع الصيت، فهـو يقـول: إن كـل فـرد يكافح في الاحتفاظ بالتوازن أو استعادته إن اختـل. فهـذا هـو الهدف
الذي يسبغ المعنى والمفهوم على سلوك الطفل وكل ما يحيط به. فكل فـرد سـواء كان طفلاً أم بالغاً يكون توازنه دائمًا عرضة للاختلال فهـو يكافح باستمرار إما للمحافظة عليه وإما لاسترجاعه. وتستطيع أن تفهم عملية استرجاع التوازن هذه إذا دققت النظر لما يحدث على المستوى الفسيولوجي (أي وظائف الأعضـاء) للطفـل.. فمـا يـحـدث عـلـى المسـتوى الفسيولوجي يحـدث أيضـا علـى المسـتوى السيكولوجي (النفسي) فحين يكون الطفل جائعاً يشعر شعورًا غامضا. فهو من الناحية النفسية (السيكولوجية)، في حالة عدم اتزان. ثم يتناول طعامه ويستمتع بالعملية وفي نهايتها يحس بالرضا والراحة مرة ثانية. فقـد أعيـد التـوازن ويستطيع الآن أن يعـود إلى النـوم. فقـد عـاد التكامـل إلى الجسـم والروح.
هذا هو غرض الحياة وهذا هو هدفها المنشود، باستمرار تُفقـد الفـرد التوازن ثم تستعيده وبهذا ينمو في الجسم حتى يصل إلى طـور البلوغ وينمو في العقل والروح طالما ظل الإنسان حياً. فمـن الناحية النفسية ينمـو الفـرد بمقابلة المشاكل بنـجـاح..
العالم الراحل الدكتور «برستون ليكي» مؤلف كتاب «طالتماسك الذاتي - نظرية عن الشخصية» قد أشار إلى أن الفـرد كما ينمـو جسميا بهضم الطعام وتمثيله في جسده كذلك ينمو نفسيًا بهضم التجارب وتمثيلها في شخصية قائمة بالفعل. ولذلك فلكي يتم النمو بطريقة صحية دون علة من العلل يجب أن يحتفظ الجسم والشخصية بوحدة تنظيمه الأساسي أثناء عملية التغيير والتحول. فالطفل بهضمه الطعام تطـول عظامه وتقـوى عضلاته وتنمـو أعصابه لكي تعينه على السيطرة على عضلاته بحذق ومهارة. وكل ذرة من النمـو تـخـل بتوازنه وبذلك تخلق حاجة جديدة لاستعادة التوازن. وباستعمال مـا تعلّمـه مـن المهـارات يستمر في إضافة مهارات جديدة إلى حصيلته المخزونة. والمهارات ما هي في الواقع إلا أدوات للتعامل بها مع البيئة. ونحـن نخلـق هـذه المهارات.
التعلم كعملية واعية هي نتيجة للخبرة والمران الطويل. ولا يـدري أي طفل أو صبي صغير كيف يتـأتى لـه التغلب على المصاعب والانتصار عليها. وكل ما يدريه هـو أن يتعلم مواجهة المواقف الجديدة عند قيامه بها وأثنـاء هـذا العمل تنمـو شخصيته بكاملها بطريقة منسجمة دون صراع داخلي. وطبيعـي ألا يستطيع أي فـرد أن يواجـه كـل صـعوبة بطريقـة ناجحة، ومن الطبيعي أن يثابر الطفل أمام المصاعب والمعوقات، فهذه هي الطريقة التي تعلمنا بها جميعاً كيف نمشي. ومن المثابرة يتعلم الطفل عرَضَا قيمة المثابرة التي هـي أهم عنصر من عناصر النجاح.
ولكن ليس في الدنيا فرد سارت الأمور معه كما يهوى دائماً. فهناك مواقـف تقـوم لا يستطيع الغلبة عليهـا. فإذا حدث ذلـك قـال الطفل لنفسه: «حسناً، هـذا الأمر أقوى مني بكثير، فلا فائدة من تكرار المحاولة»، وبذلك يترك المشكلة على اعتبار أنها غير قابلة للحل، أو على الأقل في الفترة الراهنة. والفشل الذي يأتي بعد أن يبذل جهده كأحسن ما يكون البذل يعلمه أن هناك بعض أشياء لا يمكنه أن يحصل عليها، وأن هناك بعض أعمال لا يستطيع أداءها، وعلـى هـذا فهو يستعيد الاتزان على أساس أن يوجه انتباهـه إلى مناحي هـي أجـدى لـه حيـث يستطيع أن يحصل وأن ينجز.
وعلى ذلك يتعلم بالتجربة والخبرة أن يقدر المواقف وأن يقيسها بمقياس قدرته على التحكم فيها، وعن طريق النجاح والفشل يصبح حكماً دقيقاً على قيمته كفرد. وبهذه الطريقة يخلق لنفسه صورة عقلية عن العالم وعن مكانه فيه.
اضافةتعليق
التعليقات