لطالما ارتكزت عقول البشر على وتيرة واحدة، وهي الدأب في رفع أحجار استفهامها والميل إلى معرفة ما ورائيات الأمور، فعند المسألة يمر الغيب في مخاض الولادة؛ ولادة التجلي والبيان.
وتحت كل حجر بدأ الإنسان في رفعه في امتحان التفكر، وجد للإبداع قوالب متينة تتشكل فيها مضامين الخليقة وتتجلى فيها السبل إلى معرفة مدى عظمة الخالق ودلالة وجوده الملكوتي، حتى اتخذ الخالق الإبداع اسماً يلازم ذاته العظيمة فانبثقت البداعة من البديع.
عرّف علماء النفس الإبداع، على أنه التجرد من المألوف وخوض غمار التجدد الذي يؤدي إلى نتاج لا تعود الحياة بعدها كما كانت قبلها، ولما كانت أسماء الله الحسنى دستوراً لخلقه، يدرج كل من يسعى إلى تحقيق مكنونها في حقل الإبداع، ألا يكون لقادته المعصومين في الأرض نهجاً إبداعياً في نسج خيوط الرسالة السماوية؟ أم كان إبداعهم لَدُّنّي ؟... فالتساؤل هنا، هل أبدع المعصوم أم خُلق مبدعاً؟
خلق الله سبحانه وتعالى لكل قوم هاد كما بين في القرآن الكريم، ولكن منزلة كل منذر قد حددت دوره الرسالي والمنهجي وحتى الإبداعي في مرحلة نشر الدعوة، فمهمة النبي هي عرض النبوءة الإلهية على البشر، وهنا تكمن نقطة الاختلاف الجوهرية عن الرسل الذين أرسلوا بصدد التبليغ والهدي وغرز دين الله السوي في قلوب البشرية.
ولإكمال توطين البذرة المنهجية والسلوكية للحياة الكريمة، خُلِق الإمام متمماً لمرحلة الزرع والحصاد على مستوى النفس والفكر، ليقدم ثمارها بإطباق الحق، فيستسيغها كل ذي قلب سليم.
فعند الغوص في المواريث الدينية التي عرضت أطر حيوات الأئمة الأطهار(ع)، والتي اختلفت سماتها باختلاف عصورها، نجد أن هذا الاختلاف يشكل جزئيات العملية الإبداعية التي حمل الإمام على عاتقه القيام بها.
فالتباين في مسار الأئمة على الرغم من أنهم يحققون هدفاً موحداً، يسنح الفرصة لطرح التساؤلات حول ماهية الإبداع في حياة الإمام، وهل كان يُحَقَقُ لَدُّنياً أم ذاتياَ؟
لقد توجت مضامين الإمامة بالدرجة الأسمى بين المنذرين وهي الولاية التكوينية والتشريعية على أكمل صورها، والتي اتفق على حقيقة وجودها القاصي والداني، فعن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) قال: نحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان وسبعون حرفا وحرف واحد عند الله تعالى استأثر به في علم الغيب عنده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(1)
على الرغم من أن الله عز وجل قد خص أوليائه بهذه القدرة العظيمة والتي تتمثل على وجه التشبيه بلوحة لدنية متكاملة، تشكل أطيافها منهجاً متكاملاً لكل إمام وتستوفي الوسيلة والغاية نظراً لاستحقاقهم، فلقد أباح الله لهم الاستعاضة بها عن السلوك الاعتيادي في بيان الحق؛ كأن يستغني الإمام عن محاورة الناس شفوياً ويوغل المعلومة في قلوب السائلين عن طريق الإشارة أو لغة العيون، إلا أن الأئمة (ع) استعانوا على وجر نيران المعرفة بحك الحجر بالحجر.
ولأن خليفة الله في أرضه هو منبع كل علم في الكون، كما جاء في قول الإمام أبو جعفر (عليه السلام) لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: شرّقا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلا شيئًا خرج من عندنا أهل البيت.(2)
نستوفي بعضاً من المحاور الجوهرية التي قامت عليها سيرة الأئمة:
نهج النظريات العلمية وتأسيس الجيش المعرفي:
قامت سياسة الأئمة أجمع على وضع حجر الأساس لكل علم ولكل فكرة يمكن أن تسلك بالبشرية مسلك التفكر والبيان.
وكما كان للأسس الدينية الحيز الأعمق والأوسع في أحاديث الأئمة الأطهار، كان للنظريات العلمية منبع من تلك الأنوار، فلقد شهد عصر الأئمة أجمع بداية من عصر أمير المؤمنين (ع)، ووصولاً إلى عصري الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام)، ظهور طفرات علمية إبداعية حولت سياق تفكير المجتمع إلى التعرف على الجانب الآخر من الكون.
فلقد شهد عصر الإمام الصادق (ع) إثبات لنظريات علمية شملت جميع الآفاق الفيزيائية والكيمائية والكونية وغيرهن من النظريات التي حققت السفر عبر الزمن حتى أثبتت نفسها اليوم على يد من توسموا بميدالية الإبداع، والتي لم تكن اكتشافاتهم إلا فروع لجذور متينة.
فمن بعض النظريات التي وطدها الإمام الصادق(ع) قبل ما يقارب الاثني عشر قرناً:
- نظرية انتقال الأمراض ضوئياً، والتي نصت أن هنالك فئة من الأمراض تنتقل عن طريق الضوء (الذي يشعه العضو المصاب) من المريض إلى السليم، وقد ذهب العديد من علماء الأحياء أن هذه النظرية ضرب من الخيال حتى أثبتها مركز الأبحاث في مدينة نوفو سيبيريك الروسية في القرن العشرين بعد 5000 تجربة استمرت لمدة 25 سنة، جاء في مضمونها من أن الأشعة فوق البنفسجية التي تنبعث من الخلية المريضة تتسبب في اعتلال الخلايا السليمة.(3)
- قاعدة التضاد، وتتلخص أن لكل كائن موجود وجوداً ذاتياً كائناً مضاداً له، ما عدا الله، ولكن الضدين لا يتصادمان ولا يجتمعان، ولو اجتمعا أو تصادما لكانت في ذلك نهاية العالم.
وقد بحث فيها البروفيسور آلفون، أستاذ الفيزياء بجامعة لوند السويدية حيث أثبت أنه لو حدث اصطدام بين 500 غرام من المادة و500 غرام من مضاد المادة لتولدت من ذلك حرارة قدرها مائة مليار درجة (أي مائة ألف مليون درجة)، وليس في العالم مصدر يمكنه إعطاء البشرية هذا القدر من الحرارة، علماً بأن حرارة مركز قرص الشمس لا تزيد عن عشرة ملايين درجة.(4)
لا يمكن حد مجموع الأسس النظرية التي ثبتها الإمام الصادق (ع) قبل أكثر من 1500 عام، كالنظريات التي شملت تفسير الضوء، الزمان والمكان والنجوم وغيرها الكثير مما أبدع المعصوم في وصفها، والتي أرست عقولنا على بر الحقيقة العظيمة.
-السعي بالمفاهيم الدعائية :
إن هيكلية الأزمنة التي عاصرها الأئمة (ع) اقتضت تشكيل مسار خاص أبدع الإمام في رسمه وتعبيد أرضيته بما يتناسب ورفع الوعي إلى أسمى الدرجات.
فبعد مقتل الإمام الحسين (ع)، تمزقت طبقات المجتمع آنذاك مابين ضجيج السياسة الصاخب ومابين حكامها المستهترين، الذين زعزعوا ركائز النفوس والعقول وهمّوا بها إلى الانحلال النفسي والأخلاقي، فجاءت سياسة الدعاء التي اعتمدها الإمام السجاد(ع) الحلقة الأقوى في ذلك الوقت لينقل الوعي إلى مستوى الارتباط الإلهي، وليعدّ ثلة صالحة مؤمنة حق الإيمان بنهج النبي والأئمة (صلوات الله عليهم)، والمؤهلة لرفع راية الحق واليقين.
فكان النتاج العظيم الذي أخرجه الإمام زين العابدين (ع)، هي الصحيفة السجادية (زبور آل محمد الكبيرة)، أحدثت نقلة نوعية في زمن الاستهتار.
وقد ارتبطت رباطاً وثيقاً برسالة الحقوق لكونهما يشكلان دستوراً منهجياً وسلوكياً على مستوى الفرد والجماعة.
ولقد ثبّت الإمام الهادي (ع) أيضاً بصمته في وثيقة الدعاء، وذلك بما روي عنه في زيارة الجامعة الكبيرة، والتي تعدّ من أعظم المواريث الدينية التي رسخت منزلة الإمامة وقضية الثورة الحسينية.
- الشهادة في قلب الحياة:
لطالما تعنونت مفاهيم الشهادة بالموت كما استساغها الفكر الجمعي، ولكن الشهادة هي مصطلح يمثل الجهاد في سبيل تحقيق الحياة المثمرة في العقول والأنفس، وقد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالإمام الحسين (ع) الذي أبدع في تأسيس ثورة (كيف تحيا شهيداً) في عقل كل من توغل في مضمونها المعنوي، والتي قلبت موازين الانتصار والخسارة على مر العصور، فَعُدّت أرضية خصبة لكل الثورات الفكرية والعلمية وحتى النفسية.
فمما طرحنا آنفاً، والذي يمثل قطرة في ألف ألف بحر من بحار حياة المعصومين، نجد أن الإبداع اكتسب معنى حقيقياً بهم وبنهجهم المستصعب، الذي رمى لنا بأحجار نستدل بها على مضامين الكون بما تتحمله عقول البريّة.
وبما أن المسلمين يعتبرون وعاء صبت في جوفه مناهل الأئمة الأطهار فلابد لهم أن يسعوا في تفجير العلوم الدفينة في إرث المعصومين (ع)، وأن يواصلوا نهج الإبداع الذي ابتدأه القادة منذ عالم الذر.
ويمكن أن يكون للإبداع ممرات واضحة ومعنونة إلى الوجود المادي في هذا العصر، بما تضمنه من التكنولوجيا الحديثة التي اختصرت زمان ومكان وجهد كبير.
ولابد من الإشارة أن أي عملية إبداعية يريد الإنسان سبر غورها والحصول على نتيجة فعالة، يجب أن تُسبق:
- سؤال محوري تقوم عليه حيثيات البحث.
- العمل على النقطة الجوهرية للفكرة.
- التجارب المتكررة.
- اليقين بالعقيدة الفكرية والإبداعية.
- لمس الاستفادة الفردية والمجتمعية من النتائج على جميع المستويات.
ومن هنا نستدل أن للإبداع منابع فجرت في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، نهلت من عذبها عقول المبدعين على مر الأزمان، فتفجرت روافده من الأولين وستمتد جداوله إلى الماء المعين (عج).
اضافةتعليق
التعليقات