لا يختلف (الإسلاميون) وهم الملتزمون بالإسلام فكراً وحركة حول اعتبار الإسلام هو المرجع (الضمني والمعلن) في المشروع الحضاري، الذي يعملون على صياغة معالمه، كي يكون دليل العمل للنهضة الإسلامية المنشودة.. لكن هذا الذي لا يختلف عليه (الإسلاميون) هو موضع خلاف مع قطاعات مؤثرة من (المسلمين) الذين وإن تديَّنوا بالإسلام، عقيدة وشعائر، إلا أنهم لا يلتزمون به مرجعاً للدولة وسياسة المجتمع وتنظيم شؤون العمران، فمرجعية الإسلام للمشروع الحضاري موضع خلاف ونزاع بين (الإسلاميين) وبين بعض (المسلمين)!.
ولذلك، فإن واحدة من قضايا أزمة الفكر الإسلامي الحديث، هي قضية كيفية تعامل (الإسلاميين) مع هذا النفر من المسلمين – العلمانيين – الذين يتدينون بالإسلام لكنهم يريدونه كالمسيحية، يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله؟!
وبالطبع، فإن نشأة هذا الانقسام في العقل المسلم إلى (إسلاميين) و(علمانيين) هو أمر طارىء على المسيرة التطورية للفكر الإسلامي والعقل الإسلامي، لأنه ثمرة من الثمار المرة لهيمنة الفكر الغربي العلماني على القطاعات النشطة والمؤثرة في حركتنا الفكرية ومؤسساتنا العلمية والتعليمية والإعلامية.. فلقد فرض الغزو الفكري الغربي على قطاعات عريضة من (النخب) المثقفة في ديار الإسلام نمط حضارته في علاقة الدين بالدولة والاجتماع والعمران، فتخلق في واقعنا الفكري قطاع (متغرب) يرى أن المرجعية في مشروعنا النهضوي هي (للخيار الحضاري الغربي) وليس للإسلام..
فكان هذا الانقسام، الذي يمثل واحدة من قضايا أزمة الفكر الإسلامي في الحياة المعاصرة.
ويزيد من تعقيد هذه القضية اختلاف مواقف الإسلاميين حول تقييم مكانة العلمانيين وموقعهم والموقف منهم؟.. وهل هم فصيل واحد، فيكون الموقف منهم موقفاً واحداً؟!.. أم أنهم فصائل، هم الآخرون كفصائل الإسلاميين؟!.. ومن ثم فلا بدّ من تمييز فصائلهم، والتمييز في المواقف التي تُتخذ حيال كل فصيل؟..
وهذه اشارات تسهم في وضوح الرؤية لها وتصور الحل الذي تراه موضوعياً:
أولاها: أن الخلاف بين الإسلاميين وأغلب العلمانيين هو خلاف في المشروع الحضاري، أي حول (الدولة) الإسلامية، وليس حول (العقيدة) الإسلامية .. ومن ثم فإنه خلاف في (الفروع) .. ولذلك فإن معايير الحديث فيه والحكم على فرقائه ومقولاتهم إنما يكون بمصطلحات: (الصواب) و (الخطأ) و(النفع) و(الضرر)، وليس بمعايير (الإيمان) و(الكفر) و(الهداية) و(الضلال).
وثانيها: ضرورة التمييز في الحركة العلمانية، سواء في نشأتها الغربية أو في ضرورة امتداداتها في بلادنا بين فصائل ثلاثة:
أ- العلمانيون الثوريون: وهم أصحاب النزعة المادية، التي لا تقنع بمجرد الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، وإنما تطمع إلى انتزاع التدين من العقل والقلب والفكر والثقافة والمجتمع.. وخلاف الإسلاميين مع هذا الفصيل العلماني هو خلاف في (الأصول)، وليس مجرد خلاف في (الفروع)، ومعايير تقييمه لا تقف فقط عند مضامين مصطلحات (الخطأ) و(الصواب) و(الضرر) و(النفع)، وإنما تتعدى هذا الإطار؟!..
ب- العلمانيون الداعون، بوعي، لتبعيتنا، في المرجعية الحضارية، للنموذج الغربي: وهم الذين لا يقف اختيارهم للعلمانية، وتبشيرهم بالخيار الحضاري الغربي عند حدود (الاجتهاد الخاطىء)، وإنما يقف وراءه كيد للإسلام وحضارته ودعوة للبديل الغربي باعتباره السبيل إلى إزاحة الإسلام عن طابع الحياة..
ولقد بدأ تخلُّق هذا الفصيل، من فصائل العلمانية، في واقعنا الحديث، بنفر من مثقفي الطائفة المارونية بالشام، الكارهين للإسلام تبعاً لكراهيتهم للدولة العثمانية، وبفعل (العمالة الحضارية) أو السياسية التي ربطت علاقاتهم وأنشطتهم بالمد الاستعماري الغربي، فتبلورت دعوتهم ومؤسساتهم الصحفية والفكرية في أحضان سلطات الاستعمار..
وهذا الفصيل من فصائل العلمانيين، وإن لم ينزع إلى المادية الملحدة، فيكون الخلاف معه في أصول الإيمان والتدين، إلا أنه قد اختار مواقع (العملاء الحضاريين) فالخلاف معه قائم في أصول الانتماء والهوية والمشروع الحضاري.. الأمر الذي يجعل التناقض معه تناقضاً عدائياً إلى حد كبير!.
ت- دعاة فصل الدين عن الدولة من العلمانيين الوطنيين والقوميين: من المفكرين والساسة والأحزاب الذين انبهروا بنهضة الغرب عندما قارنوها بتخلف النموذج العثماني، الذي حسبوه هو نموذج الإسلام.. فظنوا أن استعارة النموذج الغربي في الحضارة هو السبيل إلى نهضة الشرق كي يتحرر من الاستعمار الغربي، ويعود إلى الإسهام في إثراء الحضارة الغربية، التي حسبوها عالمية وإنسانية للبشرية جمعاء!.
وهذا الفصيل من فصائل الحركة العلمانية، هو الأكثر نفوذاً، والأوسع انتشاراً.. وعلى الإسلاميين أن يميزوا بينه وبين الفصيلين الأولين، مهما بدت الحدة والفجاجة والاستفزاز في مقولات مفكريه ومثقفيه، فكثيرون من أعلام هذا الفصيل، يعودون – بدرجات متفاوتة – من الرؤية الإسلامية لمشروع النهضة، ومن تبنّي الإسلام مرجعاً للمشروع الحضاري..
فالدكتور محمد حسين هيكل باشا تراجع عن دعوته إلى الفرعونية، وعن دعوته إلى تبني النموذج الحضاري الغربي، وانتقد العلمانية بعد أن كان المدافع عنها.
وغير هذه الفصائل التي تتقاسم التأثير بل والتمزيق للعقل المسلم!.. فهناك تيار التقليد والمحاكاة لموروثنا الإسلامي.. وهو تيار يغلب عليه التقليد والمحاكاة لثمرات عصر تراجعنا الحضاري وجمودنا الفكري، وفقرنا في الإبداع على وجه الخصوص.. الأمر الذي يجعل من (تقليده) جموداً يعجز العقل المسلم عن الخروج من (الوهدة الحضارية)، ومن ثم (فراغاً حضارياً) لا بد وأن يملأه التغريب؟!..
فالجهود التي يبذلها تيار (التقليد والمحاكاة للموروث) هي في حقيقتها لون من (الرفض السلبي) للتغريب.. رفض يقف عند نصف (فضيلة الرفض) فهو لا يقبل التغريب والاستلاب الحضاري.. لكنه عاجز عن تقديم الخيار الحضاري البديل والمنافس لخيار التغريب، الأمر الذي يخدم التغريب، عملياً، عندما يترك الفراغ في العقل المسلم ليملأه الخيار التغريبي.. وهو حاضر وبراق.. ومدعوم بكل الإمكانات..
وإذا شئنا أن نكثف التعبير عن طبيعة ونتيجة هذه الأزمة الفكرية في كلمات، فإننا نستطيع أن نقول: إن جوهر هذه الأزمة: هو إسراف العقل العربي والإسلامي في المحاكاة والتقليد، وفقره وافتقاره إلى الإبداع والتجديد..
فالقطاع الأكبر من مثقفي هذه الأمة ومفكريها، فريسة (للانقسام الحاد).. وليس (التنوع).. حول: هوية النفس العربية.. أهي إسلامية؟ أم غربية؟ أهي ماضوية تراثية؟ أم ماضوية ومعاصرة؟ أم أن الحداثة التي تقطع الصلات بالموروث هي مذهبها وطريقها؟
وحتى بين التراثيين الماضويين، هناك الانقسام الحاد حول: أي ماض وأي سلف ننطلق من ميراثه؟ أهو سلف عصر الازدهار؟ أم سلف عصر التراجع والجمود؟ بل إن معايير الازدهار والتراجع هي الأخرى موضع خلاف حاد بين التراثيين الماضويين؟ أضف إلى ذلك خلافهم حول دور العقل ومقامه في التعامل مع الموروث!..
وليس أهل المعاصرة والحداثة بأحسن حالاً في هذا الموضوع.. فإذا كانوا قد اتخذوا الحضارة الغربية قبلتهم التي إليها يتوجهون، ومنبعهم الذي منه يغترفون.. فإن منهم من جعل (الشمولية المادية) سلفه الذي يحتذيه.. ومنهم من جعل (الليبرالية الرأسمالية) المثال الذي يبتغيه، فتوزعهم، هم الآخرون مدارس الغرب وتياراته ومذاهبه الفكرية والاجتماعية.
على هذا النحو يعاني القطاع الأكبر من مثقفي هذه الأمة ومفكريها من هذا الانقسام الحاد في (الأصول .. والمنطلقات.. والمقاصد والغايات) وليس من مجرد (التنوع) في السبل والمناهج والفروع..
لقد تحصنت هذه التيارات بالتقليد، لا بالتجديد. التقليد للتخلف الموروث أحياناً وللوافد غير الملائم أحياناً أخرى. الأمر الذي أفضى إلى انتشار أخطر أمراض أزمة الفكر الإسلامي.. مرض الفقر في الإبداع والتجديد، والإخلاد إلى المحاكاة والتقليد.. وهل هناك أزمة فكرية أسوأ وأشد من توقف عقل الأمة عن الإضافة الخلاقة..
اضافةتعليق
التعليقات