رفعت رأسي من على نافذة السيارة لأسمع سؤال أمي لي، هل أطعمتِ الطيور قبل خروجنا؟ سألتني بنبرتها الهادئة البطيئة، أطعمتهم، أجل، وهكذا عاد الصمت ليطبق على السيارة، لا تستطيع سوى سماع صوت المحرك وشم رائحة الليل المخلوطة برائحة الأشجار الكثيرة.. نحن في طريقنا لزيارة جدتي في المستشفى، لا أطيقها حقا، لا أعلم لم يصبح الشخص عزيزا هكذا حين مرضه، نظرت إلى أختي التي غالبا ما تجلس على يساري، لطالما أحببت النظر إليها دون سبب، نظرت إلي بطرف عينها فابتَسَمتْ، لكم تشبه ابتسامة أبي، أعتقد أن حبي لها عائد لشبهها الكبير بأبي، توفي أبي وأنا في الثامنة عشر، وضعت أختي رأسها على كتفي كعادتها عند خروجنا في الليل، "هل غفوتِ؟" سألتها، لم تجب، أعتقد أنها غفت.
نظر لي أخي من المرآة أثناء قيادته وسألني إن عادت تراودني مشاهد أختي من جديد، أتى سؤاله هذا كصوت جرس الفرصة بعد درس ممل وطويل من الرياضيات، تذكرت أنني فقدت أختي منذ ما يقارب الخمس سنين من اليوم، إلا أنني بقيت أشاهدها وأحادثها حتى بعد موتها، جرجرت أمي بي لكل طبيب نفسي ينصحها به الآخرون، لم أتعالج، أصبحت أفضل إلا أنني لم أتعالج، ربما لأني لا أريد، لا أريد أن أفقدها نهائيا، أن أكون قادرة على الحديث معها والإحساس بها يكفيني وإن كانت روحا أو شبحا أو حتى جنياً من نوع ما، أجبته ب لا، كذبت لأني لا أريد لأمي أن تحزن مجددا، بدأت الكذب عليها بخصوص أختي منذ حوالي العامين، هذا أريح لي وللجميع.
فتحت عيني بصعوبة، لا أستطيع تمييز أين أنا، أضواء قوية موجهة على عيني، هناك تلك الرائحة الغريبة القوية تدخل أنفي بقوة، رائحة المستشفى القبيحة، لم أنا هنا! هل وصلنا لجدتي؟ بدأت أنادي أمي، أتت نحوي فتاة تلبس الأبيض راكضة، هل استيقظتِ؟ هل أنت بخير؟ ارتاحي؟ لا تتحركي.. سأنادي الطبيب…
هكذا توالت جملها واحدة تلو الأخرى بسرعة حتى تهيأ لي أنها بدأت تلهث بين حرف وآخر، أمسكتها من يدها، لا أعلم لم لا أستطيع جرها، يدي ضعيفة جدا،
أين أمي؟ أرجو أنها سمعتني لأنني بالكاد همست.
طأطأت رأسها وخيم على وجهها ذاك الطابع الحزين الذي نشاهده في الأفلام عندما يخبرون الشخص أن لديه مرض خطير لا يمكن علاجه، تمنيت لو أنها قالت أنني مصابة بالسرطان مثلا، إلا أنها قالت تلك الجملة المشؤومة، "يؤسفني أن أكون من يخبرك ذلك إلا أنك الوحيدة التي بقيت من ذاك الحادث المهول الذي أصابكم" ومن لحظتها بدأت أرى أمي وأخي وأختي يوميا بلا أن أضطر للكذب على أحد.
اضافةتعليق
التعليقات