ضممتها كوليد صغير، شممتها بكل ما أوتيت من إحساس، سرح خيالي يرسم لحظات إشراقة النور، وأنا أتأمل تفاصيلها المُتقنة وقماشها الفاخر، خبأتها كعادتي بعد هذه الطقوس الليلية، إنها عبائتي الجديدة التي ادخرتها للقاء، وعطرتها بعطور الأضرحة المقدسة.
لم تعد الأيام تتساوى عندي، لقد بلغت من العمر عتيا، بضع شعرات سود غاصت في بحر أبيض من الشيب، إنها رسائل الموت تبصرها عيناي في المرآة وتأبى روحي أن تصدق المشهد، هل يُعقل أن أموت كمدَا؟! لقد طال الصدى مولاي فهبني نظرة تُحيي بها بقايا آمالي المحتضرة.
لطالما تمنيت وأنا في ريعان شبابي أن أرزق بذرية صالحة أغذيها بالإيمان وأرعاها بتلاوة القرآن، كم جاشت في صدري رغبةٌ بذَكر يُقاتل بين يدي إمام الزمان، الحمد لله قدّر الله وما شاء فعل، لم تسنح لي ظروف حياتي أن أتزوج، عشت معظم سني عمري أخدم أمي المريضة، وها هي تتركني وحيدة في هذا البيت الصغير .
كان يوم الجمعة عيداً بكل نفحاته، أستيقظ صباحاً مع صياح الديك مؤذّناً لفجر تهفو له القلوب، أتوجه صوب بيت جيراننا في ريف دمشق حيث تعقد جلسة لدعاء الندبة، يطول عويلي وجزعي وتمتزج دموعي بدموع الحاضرات، يهيج حنيني ولا يبرد أنيني وأنا أردد: (فأغث يا غياث المستغيثين عبيدك المبتلى، وأرِه سيده يا شديد القوى...).
وبعد انتهاء المجلس أذهب لزيارة السيدة زينب عليها السلام، أتنفس الحياة هناك، إنه هواء عبق بدعوات المؤمنين ومناجاة الشائقين، أطيل مسك الشباك، أنا موقنة إنّ قبتها قرينة قبة أخيها الشهيد والدعاء هنا مستجاب أيضاً، كان دعاءً واحداً لا غير، دعاء جدير بأن يُنسيني كل ما تريده نفسي أو يتوق له جسدي من صحة.
كان يوماً شاقاً لعجوز مثلي، الذهاب للسوق وجلب المتاع، كسح الدار، وتنظيف غرفة الصلاة التي أعدها من أولوياتي، أما عبادتي فلا أحسبها مشقة أبداً، هي بلسم روحي ودواء عللي، أنهيت السجدة الأخيرة ولم أرفع رأسي إلا بعد أن إبتلَ موضع سجودي، أطفأت الأنوار وقمت إلى مكان نومي في الغرفة المجاورة.
أنا واثقة أني أطفئت النور، لم أخرف بعد، ما هذه الأنوار المشعة التي تتسلل من تحت الباب؟! لا يبدو لي كضوء عادي، استجمعت ما بقي لي من حول وقوة، نهضت متكئة على الجدار، وسرعان ما هرولت قدماي لمصدر النور، اللهم صل على محمد وآل محمد، ما إن فتحت الباب حتى أغمضت يداي عيني بحركة لا إرادية، انقشع النور فجأة وتلاشى كسراب، أبصرت شعاعاً لامعاً على أحد الجدران، يا إلهي إنه كف، هل ما أراه حلم أم حقيقة؟ هل مر طيف الحبيب أم رسوله؟ لا، لا، لقد مر هو، هو بذاته، ها هي كفه تطبع شهادة القبول على جدار غرفتي، وقعت ساجدة بكُلي، يا إلهي ما أكرمك، لم أمت بحسرتي، صاحب العصر شرفني بوسام قلّ نظيره.
تهافتت النساء فور سماع الخبر لزيارة بيتي المتواضع، لم يدخله أحد منذ أمد بعيد، يا لها من كرامة أدمعت عيني فرحاً، وأشعلت بريق أمل كبير للّقاء، قلبي يخبرني أنه حتى لو توقف عن النبض، سيعاود دقاته عند الظهور الجليل، نعم سيعاود.
اضافةتعليق
التعليقات