قد تكون على شكل كف تربت على كتفك يوماً وتناولكَ ديناراً أبيضاً يواسيك في يومٍ أسود، أو بإدخال سرور في قلبٍ حزين فتكون عزاءاً له، تارةً تكون وقفة مُشرّفة وحمل أمانة ثقيلة عن أخ أو صديق أو لأحدٍ من ذي رحمك، خدمة إنسانية لغريب، مساندة لسابع جار، هداية ضال، نصرة مظلوم وغريب ولو بكلمة، تسهيل أمر في عمل، زواج، دراسة، أمنية.. أو تلبية طلب لعابر سبيل.. ومن الممكن أن تكون ساعياً لكل ذلك ولم تُوفق لتحقيقه فيُحسب لك..
تختلف المسميات والعطاء والمعروف واحد، وبين ماسيمكث في الأرض وما يذهب جفاءاً تتعدد شروط قبول العمل، فقضاء حوائج الناس من الأعمال التي تُبقي الذكر الحسن للإنسان في هذه الدنيا الفانية..
ففي زحمة الحياة ومشاغلها وأزمة محورية الذات والدوران حول الأنا، تتعاظم قيمة قضاء حوائج المؤمنين، فبات الكثير اليوم لايفكر إلا بنفسه، ولايعيش إلا بجزيرته فلا يهتم ولا يعبأ إلا بما يعود عليه بالنفع وحده، ونسي أو تناسى أو جَهَل أننا نعيش سوية على هذه المعمورة بمصالح ومستقبل مشترك يؤثر كل منه على الاخر..
لطالما ركّزت الأديان كافّة وشرائع السماء على هذا المبدأ السامي، وهل أرسل الله الانبياء والرسل إلا لذلك؟!، لينقذونهم ويهدونهم الى صراط الرب العلي ويأخذون بأيديهم الى خير الدنيا والاخرة..
وكما نعلم، لكل معروف دروبه ووسائله، قد نفقد القدرة في بعض الحالات على التمييز والتخطيط ومعرفة خطوات ماعلينا فعله، نِعم المعلم في كل مدارس الاخلاق والسلوكيات والقيم رسول الله محمد (ص) وآله، ووصيه علي أمير الانسانية والحقوق والواجبات، وهو باب علم رسول الله، وفي هذا المجال يعطينا الامام زيتاً يضيئ درب العطاء، فلكل مصباح شروطه الخاصة لإنارة عتمة دروبنا المتشعبّة..
يقول الامام علي (ع):
"لايستقيم قضاء الحوائج إلا بثلاث: باستصغارها لتعظُم، وباستكتامها لتظهر، بتعجيلها لتهنؤ"..
منظار مقلوب
قد تحتاج في بعض الأيام أن تقلِب المنظار الذي ترى من وراء عدستيه الأمور بشكل مُكبّر، عيوب الناس، أعمالك الخيرية، إنجازاتك العظيمة... ومما لايُحصى في هذه الدنيا، إقلب المنظار وحاول أن تنظر بالعكس، لترى كل شيء مُصغّراً، أو باعتدال وتوازن على أضعف تقدير، فأنتَ إن رأيتَ نفسك في القمة فستقف وتطمئن ولن تبرح مكانك، وكذلك لن تبذل المزيد إن تصورتَ أنك في آخر الطريق ولن تطمح بالأكثر من الخطوات على العكس إن اعتقدتَ أنك في بداية المضمار في أي مجالٍ كان، وأن هناك دائما المزيد ومالم تقم به بعد، وكذلك في قضاء حاجة أخيك إن رأيتها صغيرة فستحفظ ماء وجهه أولاً وهو بُعد اجتماعي ولطيف، وستحثّك الأيام ثانياً على بذل المزيد وهو عامل نفسي يزكّيك.
فلا تضع قيمة لما تعمل، ولا تتمنن، يقول عزّ من قائل: (لاتُبطلوا صدقاتكم بالمنّ والاذى).
ويقول الامام زين العابدين في رائعته، دعاء مكارم الاخلاق، "ولاترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها ولاتُحدث لي عزاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلةً باطنةً عند نفسي بقدرها".
ويعضّد هذه الصفة؛ "باستصغارها لتعظم" حديث آخر لأمير المؤمنين عندما يقول: إذا أردتَ أن تعظم محاسنك في عين الناس فلا تعظمَنَ في عينيك".
صدقة السر
في خضم مانعمله من خير قد ننسى أهمية الاخلاص ويأخذنا الرياء والرغبة بأن تظهر أعمالنا الجيدة، والنتيجة أنها ستضيع وتصبح هباءا منثورا، ساداتنا الكرام لطالما أخفوا كل معروف بذلوه ولكن الله شاء أن يظهر بعضها في الدنيا والكثير منها في الآخرة، فأئمتنا وفي الكثير من قصصهم مع الفقراء والمحتاجين كانوا يُطعمون الطعام ويساعدون الفقراء في الليل الأدهم وبعيدا عن العيون والأضواء، وآثار الجراب أبت إلا أن تظهر على أكتافهم الشريفة..
نعم، فالصدقة محمودة في كل حالاتها ولكنها في السر أعظم، وكذلك في قضاء حاجات الآخرين.. فتحفظ بذلك كرامتهم.. وتزيد المحبة والألفة..
لُقمة هنيّة
يقول المثل: "من يعطِ بسرعة يعطي مرتين"، فعندما يكون أحدهم جائعاً أو عطشاً أو مستغيثاً لبّي حاجته في حينها ولاتتمهّل، لتكون لذيذة وهنيّة فيتمتع بها، فالتروّي مطلوب في بعض الحالات، على عكس أخرى ومنها قضاء الحوائج، كوصية الرسول (ص) "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"، وكذلك أمرنا رسول الله بالسرعة في تزويج الكفؤ ودفن الميت وكذلك العمل الصالح.. وما أجمل أن توفي بالوعد سريعاً ولاتماطل..
تأسيساً لما سبق، نرى أنّ حديث أمير المؤمنين منظومة أخلاقية وسلوكية تجمع ثلاث قيم مهمّة، وكلنا يعرف ثمار شجرة الخير ومايجنيه الانسان والمجتمع من قطفها ولو بعد حين، ولكننا بحاجة الى معرفة شروط ومواصفات جذور تلك الشجرة المعطاءة، وهي بمثابة بوصلة دقيقة توجهنا وتُنظم خطواتنا لعمل الخير وتحقيق حاجات الناس، وفي أحاديث ومقولات أخرى يوضح الامام الصادق والكاظم (ع) بعض البنود، فكلهم نور واحد وسلسلة تُكمل الواحدة منها الاخرى، يقول الامام الصادق (ع):
"رأيت المعروف لايصلح إلا بثلاث خصال، تصغيره وتستيره وتعجيله، فإذا صغرته عظمته عند من تصنعه إليه، وإذا سترته تممته، واذا عجلته هنأته، وإن كان غير ذلك سخفته ونكدته".
ويقول الامام الكاظم (ع) كذلك:
"لاتتم صنيعة عند المؤمن لصاحبها إلا بثلاثة أشياء، تصغيرها، وسترها، وتعجيلها، فمن صغر الصنيعة عند المؤمن فقد عظم أخاه، ومن عظم الصنيعة عنده فقد صغر أخاه، ومن كتم ماأدلاه من صنيعة فقد كرم فعاله، ومن عجل ماوعد فقد هنئ العطية".
وكما نرى أنّ حديث مولانا علي ركّز فيه على النوعية والكيفية وليس فقط الكم والعدد، فلا يهم كم عملت لأجل الله أو الاخرين فالمقياس العمل الحسن الخالص، فمن يسعى للتكامل ليضع نصب عينيه خدمة الناس ومساعدتهم.. ولاينسى كلمات الحسين بن علي: "اعلموا أنّ حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم، فلا تملّوا النعم فتتحول الى غيركم"..
خِط لنفسك اسماً مع المعطائين، صانعي المعروف، الساعين في قضاء حوائج الخَلق، ولتكن كلمات المولى علي (ع) منارات وضّاءة في دربك الخَدَمي.
اضافةتعليق
التعليقات