رمقني بعينيه المجعدتين، وكان حاجباه الأبيضين معقودين، كأنه يفكر في كلام يود قوله لي، كنتُ قد عدت تواً من المدرسة وشعور الارهاق لا يفارقني بعد يوم دراسي متعب، سلمت عليه وقبلت يده فبادرني بالسؤال "ابنتي هل لديك وقت اضافي في المساء بعد اكمالك واجباتك المدرسية؛ لمتابعتي اثناء تأديتي لصلاتي؟" أجبته باستغراب: "أتابع صلاتك؟" قال: "نعم عزيزتي في الاونة الاخيرة لا اكاد اتذكر كم ركعة صليت؛ لذا احتاج وجودك بجانبي ومتابعتي".
لا اعلم لماذا احسست بضيق اعتصر قلبي، تسارعت معه قطرات الدمع من عيني فقلت "نعم بالتأكيد وبكل سرور جدي الحبيب" ارتقيت السلالم بسرعة خاطفة متجهة نحو غرفتي، أغلقت الباب خلفي ونبضاتي أكاد أسمعها.
وقفت أمام مرآتي، طالعت ملامح وجهي الفتية، وقارنتها مع ملامح جدي الكهولة وسألت نفسي "ترى هل سأصبح مثل جدي؟ هل سأنسى مثله عدد ركعات صلاتي؟" أسئلة بسيطة كان وقعها كبير في روحي، وفي المساء جلست بجانب جدي لأكون ذاكرته المؤقتة، وحين شاهدني ابتسمت عيناه في وجهي، وأمطر مسامعي بحروف الدعاء الجميلة التي تشرح القلب الحزين.
وبدأ جدي الصلاة بخشوع وتذلل لخالقه، وأنا أصغي له بحذر شديد لاكتشف خطأه وأصحح له ترتيب صلاته، وأنا أنظر له وهو يركع ويسجد وكأن قلبي معلق مع سنين عمره الثمانون، رغم توجعه من حركة مفاصله، إلا انه أكمل واجبه على أتم وجه، كطالب مجتهد لم يتهرب من أستاذه ويتعذر بحجج واهية كالمرض، طوى سجادة صلاته بكل حب؛ ليعلن تحقيق انتصاره على من تربص به ليخطئه ويوسوس له، وبلا أدنى شك فاز بتفانيه.
يا ترى كم مثل جدي نحتاج في تفكيرنا وأنفسنا، لننتصر على شياطين خذلاننا وانكساراتنا؟
توفي جدي بعد صراع طويل مع المرض، لازلت أذكر ملامحه بدقة كبيرة، صوت تكبيرته في صلاته لازال يدوي في أذني، وعيناه البريئتان كانتا عَالماً تحكي قصص كفاحه الطويلة في هذه الحياة القصيرة.
رحمك ربي أيها الجبل الشامخ، ها أنا قد كبرتُ يا جدي وهرمت ذاكرتي، ولا أعلم هل صلاتي كما هي أم ينقصها متابع؟؟
الخلاصة؛ اعتبروا من تجارب الآخرين قبل فوات الأوان، فالحياة لا تنتظر أحد.
اضافةتعليق
التعليقات