في أرصفة الشواع وأزقة الأحياء نجد الكثير من الألم، دموع سقطت وابتلعتها الأرض، عطشى هي الحياة لرؤية وجع الأحياء، امرأة ناهز عمرها السبعون تبدو قوية رغم انكسارها الواضح، تجلس في مكان عادة مايمر منهُ الناس، تفترش بساطاً قديما رثّاً وتبدء بصف حاجات بسيطة عليه..
أم وأب لثلاثة أيتام، ابنها الوحيد ودعهم شهيداً، مستعذبا فكرة الرحيل تاركاً أرواح معذبة وراءه، ابتاعت قلبها ومشاعرها للأرض كي تستطيع ابتياع ماتبقى من فُتات ذكريات له..
ساعة سوداء.. بنطال أزرق.. محفظة رمادية.. محبس فضي.. وحذاء قديم شبه البوت انسدلت منهُ (قياطين) بيضاء.. بلوزة وقبعة وبعض (الترواكات)..
تنظر لهن وسرعان ما تنقض مخالب الذكريات على روحها لتُصيغ دموعاً حارة تنسدل على وجنتين أبدع الزمان بخربشتها كلوحةٍ في يد طفل..
_ كم سعرها؟.
شاردة الذهن
_ عفوا أنا أحدثكِ..
_ عذراً يابني تفضل لم أنتبه..
_ كم سعرها؟ مشيراً إلى الساعة.
تحاول أن تمخر عباي رهبتها وحزنها لتجيب الشاب.. ب ألف دينار..
ستجد فيها ألفُ نبضة وقُبلة إنها الساعة التي إهديتها له، كان قد وعدني، كلما اشتاق لي أقبلها لأنها لامست أناملي..
من؟ باستغراب سألها..
إنهُ حصاد سبعين سنة من المأساة..
ابني الوحيد الذي كنت أنتظر قدومه كما تنتظر الحامل شهر الولادة والسجين يوم العفو والصائم وقت الإفطار والمؤمن وقت الصلاة..
وأتاني لكنهُ بلا روح تاركاً وراءه ٣ أبناء وزوجة على عاتقي وقعت رعايتهم..
وقف وأشاح بوجهه كي يمحي آثار الدموع المنسكبة على وجنتيه قائلاً:
سأشتريها ب ٢٠ ألف أرجو أن تقبلي..
لا لا أبداً لم أتعود على الصدقة تفضل خذها بسعرها إن لم تقبل فلا بأس اتركها..
ب٥ آلاف، قال..
قالت: كلا
سلمها الألف وأدار ظهره..
تاركاً وراءه تلك العجوز المتخمة بالألم.. عاد بعد ثوان عدة.. عفواً هل أجدكِ غداً إن أتيت هنا؟
نعم تجدني إن لم ينادني ابني لأكون بجنبه..
حل المساء وقبل أن تبدأ بإعادة الأغراض جاء رجل ليشتري بعض الأحذية منها ورحل..
عادت إلى البيت محنية الظهر كئيبة.. ىنظرت إليها زوجة ابنها..
_ ماذا بكِ ياعمة هل حدث شيء؟
_ كلا..
_ أنتِ على غير عادتكِ.. تبتسمين حين دخولكِ المنزل رغم الألم..
بما تبقى منه جئتُ لكم بهذا الطعام أخشى أن ينزعج مني.. لم أترك لهُ ذكر في البيت..
ربتت على كتفها قائلة:
لا ياعمتي نحن مضطرون لفعل هذا.. ذكره في قلوبنا ليس في وجود حاجياته..
في اليوم التالي.. خرجت كالعادة وافترشت الأرض وصفت الأغراض..
لم يبقَ سوى محبس فضي فيه حجرة يبدو أنها باهضة الثمن، لونها أزرق داكن وعلم بلادهم الذي جاءها مرتدياً به..
نظرت كثيراً إليه وأغمضت عينيها شاردة الذهن لتستعيد ذكر يوم مجيئه الذي لم تنسهُ قط بكل تفاصيله..
فتحت عيناها بكل ثقل فوجدت أن المحبس اختفى بحثت عنه، قامت ونفضت العلم والفرشة التي تجلس عليها دون جدوى انتهت بقول رحماك ربي، وقعت على الأرض حاملة العلم فوقع عليها حتى بدا جسمها مغطىً بهِ إلا أطراف أقدامها..
هب الناس من حولها وعم الضجيج المكان..
في هذه الأثناء جاء الرجل الشاب الذي اشترى منها الساعة يوم أمس فوجئ بالضجيج وتكوم الناس فوقهم فوق بعض ولا يُميز صوت الأنين من الصراخ ومن كلام الناس كأنهُ دبيب النمل..
دافع الناس بكلِ خوف ولهفة وإذا بهِ يرى تلك العجوز وهي ممددة على الأرض مغطاة بالعلم الذي كان كفناً لابنها أثنى ركبتيه على الأرض واضعاً يديه على رأسه صارخاً أمااااه..
سالت دموع حارة على وجنتيه بدأ يقترب قليلاً من العجوز حتى كشفَ يديها ليرى الدليل هل وشمت على معصمها اسمه فوجده وعاودَ النحيب..
أُماه موتكِ بذمتي أنا صديق مُحسن قد أوصاني بكِ قبل رحيله وأوصيته أنا بأمي كان على أي واحد منا يذهب أولاً عليه بالاعتناء بأم صديقه.. بحثت عنكِ كثيراً أراني صورتكِ وعند رؤيتي لكِ يوم أمس اتضح أنكِ أنتِ هي لكنني امتنعتُ من أخباركِ لآتي إليكِ محملاً برسائل ووصايا قد تركها لكِ..
قاطعهُ الاختناق وأجهش بالبكاء، وعاودَ النحيب صارخاً أنت أمانتي ولم أصنها، ظلت كلماتها تأنُ برأسه..
نعم تجدني إن لم ينادني ابني لأكون بِجنبه..
اضافةتعليق
التعليقات