ليس غريبا أن نسمع بعض الأصوات الناشزة التي تصف ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) بأنها حركة شقّت عصا المسلمين، وخرجت على الشرعية المتمثلة بخلافة يزيد لعنه الله.
إن مصدر مثل تلك الآراء الفاسدة أمّا جاهل مقصّر لا يجشّم نفسه عناء البحث لمعرفة الحقيقة، أو ناصبي حاقد أمويّ الهوى والمعتقد .
فهل كانت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) فعلاً مجرد تمرّد فاشل دفع ثمنه دمه الشريف ودم الصفوة من أهل بيته وأصحابه؟
وهل كان أمام الإمام الحسين (عليه السلام) خيار آخر لمواجهة الوضع القائم يجنّب -من خلاله- نفسه وأهله ذلك المصير الدامي؟
أسئلة يمكن الإجابة عليها من خلال الرجوع إلى سيرة الإمام الحسين (عليه السلام)، ودراسة دقيقة لأقواله وخطبه التي توضح أهدافه ودوافعه من الثورة .
لقد أعلن الإمام الحسين (عليه السلام) عن أهداف ثورته بكل وضوح وشفافية لا يدع مجالا للتكهّن أو للإجتهادات الشخصية !
إن أول إعلان صدح به الإمام الحسين (عليه السلام) كان داخل قصر الوالي الأموي في المدينة عندما دعاه لمبايعة يزيد بعد هلاك أبيه معاوية حيث قال (عليه السلام) وبكل وضوح سبب امتناعه عن البيعة في مقارنة صريحة تبين الفرق الصارخ بينه وبين يزيد: " إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله " .
فسليل النبوة، والوريث الشرعي لدعوة السماء لا يمكنه أن يبايع سليل الأدعياء والطلقاء الماجن المتهتّك الذي لم يترك حرمة إلا انتهكها.
ولو فرضنا - مجرد فرض- إن الإمام الحسين (عليه السلام) اعتبر خلافة يزيد أمرا واقعا، وبايعه طلبا للعافية والسلامة، فإن هذه البيعة ستكون الضربة القاضية لدين جدّه رسول الله؛ لأنها ستضيف الشرعية لخلافة يزيد، وستصبح الخلافة الوراثية التي ابتدعها الأمويون أمرا مقبولا ومسلّما به عند المسلمين كافة .
وبعد رفضه المدوّي للبيعة في المجلس الأموي، وتصميمه على الخروج من المدينة متوجها إلى مكة كتب في وصية لأخيه محمد بن الحنفية جاء فيها: "وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجتُ لطلبِ الإصلاح في أمّة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب عليه السلام" .
أهداف واضحة لا مجال للنقاش فيها، فسبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعلن بوضوح إن سبب خروجه من وطنه لم يكن بطرا أو رياء؛ لأن القرآن نهى عن مثل ذلك الخروج حيث قال تعالى:
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاس } .
فدافِعُ الإمام الحسين (عليه السلام) الإصلاح لا غير؛ وقد استخدم أداة الحصر "إنما" فهو إذن إصلاح خالص لا تشوبه أية شائبة من رياء أو ظلم أو فساد أو استكبار، وهو إصلاح واسع المدى لا يحدّه زمان ولا مكان؛ لا ينحصر في مسلمي عصره بل في أمة جدّه في مشارق الأرض ومغاربها وفي كل الأزمنة والعصور .
هذا الهدف العظيم والكبير هو أحد أسرار خلود ثورة الإمام الحسين، واستمرار توهّجها وعطائها وتأثيرها على القلوب والعقول؛ لذا نجد كلّ ثائر مصلح قد تأثّر بالإمام الحسين (عليه السلام) بصورة ما، واستلهم من شخصيته الفريدة معاني الصدق والثبات والإباء، وكل ثورة أصلاحية وقعت بعد يوم الطفّ فيها انعكاس لجانب من ثورته، ولعل أول تلك الثورات التي تأثّرت بثورة الإمام الحسين (عليه السلام) هي ثورة أهل المدينة أو "واقعة الحرة" والتي حصلت بعد عام من استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام).
إن هدف الإمام الحسين (عليه السلام) للإصلاح يحتاج إلى وسائل وأدوات لا يتحقق بدونها وتلك الوسائل هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذلك الحكم الشرعي الذي كاد أن يتعطّل لولا قيام الإمام الحسين (عليه السلام) والذي مارسه بمستوياته كلها وهو التغيير بالقلب واللسان ثم باليد انتهاء بالشهادة التي لم يحصل نظيرها على مرّ التأريخ .
والوسيلة الأخرى يوضحها قوله (عليه السلام): "وأسير بسيرة جدي وأبي عليّ ابن أبي طالب عليه السلام" فمن أولى منه باتباع سيرة آبائه، وقد ظهر المنهج النبوي العلويّ بتفاصيل ثورته، ومواقفه من أعدائه بما يرسم لنا صورة واضحة عن البون الواسع بين المنهج المحمديّ العلويّ والمنهج الأموي .
وقد يستوقفنا السؤال الثاني، ألم يكن الإمام الحسين (عليه السلام) خيار آخر يجمع من خلاله بين رفضه لبيعة يزيد، مع الإبقاء على حياته الشريفة، وحياه أهل بيته، كالهجرة مثلا إلى مكان آخر ليتجنّب الاصطدام المباشر مع السلطات الأموية؟
لقد خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من المدينة إلى مكة ليس هروبا من بطش الأموين، بل هي مرحلة من مراحل ثورته، ومكث فيها شهورا يدعو الناس، ويبين لهم سبب خروجه ونهضته، وكان خلال تلك الفترة يتلّقى مئات الكتب من أهل الكوفه الذين رفضوا بدورهم بيعة يزيد وكانوا يعرضون عليه بيعتهم، ويدعونه للقدوم إلى الكوفة.
وعندما اكتملت الرؤية لدى الإمام الحسين (عليه السلام) حول الوضع، وعندما علم بموآمرة أموية لاغتياله في الحرم المكي؛ قرر مغادرة مكة متوجها إلى الكوفة بعد أن أرسل لأهلها مبعوثه مسلم بن عقيل .
هذا الخيار الذي عارضه عليه الكثيرون ومنهم أخوه محمد بن الحنفية الذي نصحه بعدم التوجه إلى الكوفة قائلا: "يا أخي إن أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتُ أن يكون حالك كحال من مضى، فإن رأيت أن تقيمَ فإنك أعز من بالحرم وأمنعه" فأجابه الإمام الحسين: "يا أخي قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت" ، فقال له ابن الحنفية: "فإن خفتَ ذلك فصِرْ إلى اليمن أو بعض نواحي البرّ فإنك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد".
ألا يبدو كلامه رأيا صائبا، ونصيحة تتّسم بالكثير من العقلانية، تتيح للإمام الحسين الوقت الكافي للتفكير بهدوء ليخرج من الموقف الصعب الذي يواجهه بأفضل النتائج؟
ومع هذا فقد صمم الإمام الحسين (عليه السلام) على التوجه إلى الكوفة رافضا الخيارات الأخرى؛ فهو لن يذهب إلى اليمن لأن أهلها لم يكاتبوه ولم يبايعوه؛ ولم يعدوه بالنصر؛ فهم بذلك غير ملزمين بنصره، بل أهل الكوفة هم من فعلوا ذلك، ووعدوه بأنه سيقدم على جند له مجنّدة؛ فصارت كتبهم وبيعتهم حجة عليه، ودعوة لا بد أن يستجيب لها .
وهو لن يذهب إلى نواحي البر ولا إلى أي مكان قصيّ عن مسرح الأحداث الساخنة، ويترك الساحة ليزيد، فيخبو وهج موقفه، وينسى الناس صوته الذي دوّى يوما معلنا: "مثلي لا يبايع مثله" فتضيع بذلك قضيته الكبرى، وتصبح خلافة يزيد أمرا محسوما وواقعا لا مفرّ منه.
إن الوجهة كربلاء لا غير فهي أرض الميعاد، وأرض الملحمة الكبرى، والمثوى الخالد، والقبة السامية التي تعانق السماء، وتحاكي الشمس والنجوم نورا وألقا .
اضافةتعليق
التعليقات