بعد انتشار فايروس كورونا في الدول العربية لابد أنك صادفت يوما مصاب، أو يكون أحد أفراد عائلتك أو قد تكون أنت، هنا يوميات مسن في ردهة المعالجة، مسن قطع نصف قرن من عمره تلونت خصلات شعره باللون الأبيض فبدأ خريف العمر يرسم ملامحه، مع خوف من هذا الفيروس والتزامه بكافة الاجراءات الوقائية من ارتداء الكمامة والكفوف، ويتعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق.
إلا أنه جاء ذلك اليوم الذي شعر أن هناك عدو كاسر يهاجم جسده الضعيف فلا يملك غير سلاح الدعاء، توضأ بدموعه لعلها تنجيه من الألم، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، اثبتت اصابته بفيروس كورونا، وبدأت علامات الوباء تظهر، يغلي جسده كماء يغلي، شفتاه تتقطع من الحرارة، حتى تغيرت ملامحه، فأصبحت باهتة مضطربة، صرخة جسده وهو يئن لا جدوى من العلاج، يسكنه الصمت في ضجيج الردهات حتى تشعر انه فقد الحياة، لكنه في الحقيقة فقد الامل، بين جثث الاموات وعويل المحبين، يجلس الرجل المسن، الردهة تستقبل الحالات الطارئة وعلى مدار الساعة هناك من يرحل وهناك من ينتقل إلى ردهة أخرى وسعيد الحظ من يغادر الردهة بقدميه لا محمولاً على الأكتاف، كان يردد مع كل صرخة محب كان الله في عونهم هنيئا قد رحل في السماء يكمل علاجه فعلاجات الأرض قاتلة، باستغراب وحيرة كيف لرجل مسن بعد هذه التجارب التي قطعها من الحروب والهجرة هكذا يستسلم لفيروس صغير لا يكاد يرى بالعين المجردة.
قطع سؤالي وطلب أن ارفع درجة الأوكسجين أكثر، الهواء الذي يفاض من الأرض لا يصل إلى رئته، تغير لونه حتى تلك العروق أصبحت سوداء تشهق الهواء بقناع التنفس الاصطناعي، ثمة صراع بين الوقت والعمر، بدأ يسرد يومياته عندما كان يرقد في ردهة الحمايات رقم ( 8).
اعتاد أن يمسك المسبحة في أطراف يده، لكن حرارة جسده تفرط بحباتها فتسقط على الأرض، بدمعة ساخنة على وجنتيه، يطلب أن تعلق على رقبته كطائر في عنقه، وكلما أكمل من تسبيحة أدار حباتها مرة أخرى، ترتفع دعوات مرافقيه، عندما تنخفض نسبة الأوكسجين، كنت أسمع أنفاسه المتصاعدة، كان يلهث ليحصل على نسمة هواء تدخل رئته، سعاله الجاف يفتق بتلك الحويصلات فتقذفها كأنها الراجفة. لا شيء هنا غير أصوات العويل تشاهد الميت وهو يدفع بعربة نحو ثلاجة الموتى أمام المصابين، حتى يشعروا أنهم اللاحقون بعده، فالسباق هنا يختلف كلما انخفض الأوكسجين تصل مسرعا لتلك الجثث الباقية.
لا تصدق أن المريض الذي هرب منه الأبناء والأحبة أصبح الآن في ردهة الغياب وبين أعداد المنسيين، فيتصدق عليه المرافقين وبعض الممرضين في قضاء حاجته فترى دموعه تنهمر مع دعواته للخير لمن يساعده وهو يقول تركوني أولادي هنا،
(يوم يفر المرء من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه..).. لم تأتِ الرادفة بعد حتى يفر الولد من مرافقه أبيه ويقوم في خدمته فيتركه أسيراً لتلك الأيادي، هل الفيروس يعيق بر الوالدين؟ فيتركهم امواتاً على قيد الحياة، تؤلمني صرخة الأم التي تقف عند النافذة تنتظر من يأتي لزيارتها، فتضرب الجدار بيدها وكأنها ضربت شهور الحمل وسهرها بذلك الجدار.
يوميات مسن يرى تلك المشاهد ويسمع ورغم أنه مازال أسير تلك الردهات بين الحميات والانعاش لعلها الحياة تعود مرة أخرى، لا أحد يعرف النهاية وحده الله من يعلم، بين أبنائه من ردهة الانعاش يردد على مسامع أولاده رضي الله عنكم وأسعدكم فهو محمول على كف الرحمة والبر، بينما تغفى عيون الراقدين في انتظار زيارة لقريب أو حبيب، وآخر ما دونه المسن.
إن كميات العلاجات هنا لا توصف، فطبيب يجد العلاج الروسي هو المنقذ وآخر الليل يأتي طبيب آخر ويرفض العلاج ويقول الهندي أفضل وفي أول ساعات الصباح من يقول المصري هو العلاج الفريد، ومازالت الأموال تصرف حتى تجاوزت المعقول ولم يجد المصاب العلاج الشافي، ازرّق جسده وتراخت أعضاءه وبدأ يدخل مرحة الخطر، والقول هو أننا نجرب هذه العلاجات حتى نعرف النتيجة، مع نهاية اليوم قال الممرض في ردهة الانعاش: انتهت حلول الارض والأمر متروك للسماء.
اضافةتعليق
التعليقات