من الأفضل أن تحب وتعاني فقدان الأحبة، من ألا تقع في الحب أبداً.
نادراً ما جرت مساءلة هذه الحكمة عن ذلك الشعور، وقد أفصح عنها للمرة الأولى الشاعر المرموق اللورد تنيسون في عام 1850 عقب معاناته فترة طويلة من الأسى. وفي المقابل، تحدت دراسة جديدة تلك الحكمة معلنة أن فقدان الأحبة قد يعجل شيخوختنا، أو حتى يقتلنا.
ونهضت بهذه الدراسة "مدرسة مايلمان للصحة العامة، جامعة كولومبيا" و"مركز روبرت أن. بوتلر للشيخوخة"، وقد وجدت أن وفاة قريب قد تحدث تأثيراً مميتاً على العمر البيولوجي (أي العمر الذي يفترض أن خلايا المرء بلغته مقابل سنه الزمنية). ويرمي فقدان قريب عزيز عليك بأخطار على صحتك، فيما ترفع الفقدانات المتكررة إمكانية الإصابة بمرض في القلب، والخرف والموت المبكر. وكلما تزايد فقدان الأعزاء، تفاقمت النتائج. وترتبط مكابدة فقدان اثنين من الأعزة أو أكثر، في مرحلتي الطفولة والبلوغ، مع شيخوخة بيولوجية بصورة أقوى مما يحصل مع فقدان عزيز واحد، وتفوق بما لا يقاس وضعية عدم فقدان أي مقرب عزيز.
وبحسب المؤلف الرئيس للدراسة، إليسون آيللو، "في الولايات المتحدة، أظهرت الدراسة ارتباطات قوية بين فقدان الأحبة في سني الطفولة والبلوغ، وبين تسارع الشيخوخة البيولوجية". وأضافت، "لم نفهم بصورة كاملة كيف يؤدي الفقدان [خسارة مقرب] إلى تدهور الصحة وارتفاع الوفيات، لكن الشيخوخة البيولوجية قد تكون إحدى تلك الآليات، وفق ما تشير إليه دراستنا".
الآن، أعرف أن هنالك علماً يستطيع مساعدتنا على تحسين فهمنا لأنفسنا والعالم من حولنا. أعلم أن كل قطعة جديدة من البحوث تشبه قطعة من أحجية "بازل"، بمعنى أن لا قيمة لها بحد ذاتها لكنها عبر طرق غير متوقعة، تميط اللثام عن طبقات جديدة من الفهم والترابطات. أعرف أن هذه الدراسة تحديداً استندت على أعمال مشابهة سبقتها وسعت إلى توسيع فهمنا عن التأثير الجسدي للحزن والأسى.
ومع ذلك، يصعب على المرء أن يتغاضى عن الإحساس بأنه مستنزف إلى حد ما، بسبب ذلك الاستنتاج الواضح بشكل لا يصدق والقائل بأن الحداد يؤثر سلبياً في صحتنا. كل من فقد عزيزاً سيخبرك بذلك. إن صحتنا العاطفية والعقلية والجسدية مترابطة ولا تنفصل عن بعضها بعضاً.
وبحسب هذه الدراسة، إن مكابدة فقدان الأحبة في أي مرحلة من العمر، تؤثر في الصحة، لكن شدة تلك التأثيرات قد تكون أكثر حدة أثناء الطفولة ومقتبل البلوغ. وأنا عضوة مكرسة في "دي دي سي" DDC [حرفياً، نادي الأب المتوفى] وقد فقدت أحد الوالدين في سن الـ11، وتلا ذلك وفاة جدي. ولكن، أنا لست واثقة من موقفي حيال معلومات تفيد بأنني عرضة لخطورة متزايدة للإصابة بمرض في القلب أو الخرف، لأن والدي الرائع قد غادر دائرة الفانين قبل ربع قرن. حتى لو امتلكت أداة للسفر عبر الزمن، لما غيرت مسار تلك الحوادث، ومرد ذلك أنه لا توجد طريقة استرجاعية للتمكن من "تذليل كارثة ذلك اليوم" [وتفاديها] حينما يتصل الأمر بسرطان مدمر لا يصد.
وكذلك تملي تلك المعطيات السؤال التالي: ما البديل؟ [لا مفر من ذلك] ووفق كلمات شاعرية من الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، عقب هجمات 9/11، "الأسى ثمن ندفعه لقاء الحب". وقد أعاد [الكاتب والموسيقي الأسترالي] نك كايف صوغ الفكرة نفسها، وبطريقة أقوى، حينما ذكر في سياق الذكرى الـ15 لوفاة ابنه آرثر، "يبدو لي أننا إذا أحببنا، فلسوف نعاني الأسى والحزن. إنها صفقة. إنه عهد. الأسى والحب مترابطان إلى الأبد. إن الأسى تذكير مريع بمدى عمق حبنا، وهو لا يرد [لا مفر منه]، والحب أيضاً". وتوخياً لحماية نفسك منه، كي تحمي نفسك من الشيخوخة المبكرة، عليك تجنب الحب بالكامل.
وتحيلنا تلك المعطيات كلها إلى وجوب أن نعيش في العالم الفعلي ما قدم في فيلم "كاتش 22" Catch 22.
[في الحرب العالمية الثانية، تنتاب يقظة الضمير أحد الطيارين الأميركيين المكلفين بالقصف الجوي. ويعثر على فقرة في وصف الجيش لعمل الطيار، رقمها 22، تفيد أنه إذا اختل عقله، فإنه يعفى من مهامه. ويتقدم الطيار بطلب إعفائه متذرعاً بأن عقله مختل. ولكنه يكتشف أنه وقع في شراك تلك الفقرة، لأن القيادة تبلغه أنه إذا لاحظ الاختلال، يكون عقله سليماً وإلا لما تمكن من ملاحظة ذلك بالأصل. لذا فإنها لن تقبل تذرعه بالاختلال العقلي، مستندة إلى الفقرة 22 عن ذلك الأمر نفسه! إنها القصة التي قدمت فيلماً كلاسيكياً، ثم مسلسلاً تلفزيونياً صغيراً، تحت العنوان نفسه].
هل تعرفون ما الأمر الآخر الذي يحمل تأثيرات سلبية بشكل لا يصدق على الصحة، بما في ذلك الوفاة المبكرة؟ إنه ألا تقع في الحب أبداً طوال حياتك. ولقد أظهر عدد كبير من البحوث أن الوحدة والعزلة الاجتماعية تتصلان بزيادة الوفيات وارتفاع خطورة الإصابة باضطرابات في القلب والجهاز العصبي والتمثيل الغذائي [طريقة حرق الجسم للغذاء وتحويله إلى طاقة أو تخزينه كدهون وما إلى ذلك]. في عام 2023، ظهرت دراسة اقتضى إعدادها 10 أعوام، واحتسبت خطر الوفاة المبكرة بين صفوف الأشخاص في منتصف أعمارهم (بين الـ40 والـ69)، فوجدت أن ذلك الخطر قفز بنحو 39 في المئة عند من يعيشون وحيدين ولا يزورهم أحد، بالمقارنة مع من يرون أصدقاءهم وعائلتهم كل يوم.
الأسى ثمن ندفعه لقاء الحب
الملكة إليزابيث الثانية
إذاً، يتعلق الأمر بنوعية، وليس بكمية، العلاقات التي تؤثر إيجاباً في صحتنا، بمعنى أن عمق العلاقة هو الأمر الأساس. وثمة دراسة أخرى تناولت [أحوال] ما يزيد على 300 ألف شخص، وكشفت عن أن من لا أصدقاء لهم، أو لديهم صداقات بنوعية سيئة، يضحون موضع خطورة للوفاة المبكرة بمقدار الضعفين، مما يشكل عنصر خطورة يفوق الانخراط في عادة تدخين 20 سيجارة يومياً.
ولعل ذلك مشهد الذروة في مأزق الوقوع بين المطرقة والسندان. إذ يعني ذلك أنك تضحى في خطر الموت المبكر إذا اخترت التهرب من إرساء علاقة حب والحفاظ عليها، وفي المقابل، تتزايد إمكانية موتك مبكراً إذا رحل عن الحياة من بنيت علاقة حب معهم وحافظت عليها.
لذا إن كانت اللعنة ستحل علينا إذا فعلنا وسنكون ملعونين إذا لم نفعل، أفلا يغدو منطقياً أن نشرع قلوبنا ونعيش حيوات مفعمة بكل ما نستطيع من الحب والفرح والصداقة والعلاقات العميقة المغذية للروح؟
إن آلام خسارة الأحبة تشكل جزءاً لا مناص منه ضمن التجربة [الاختبار] الإنسانية، ولا يمكن المداورة والالتفاف عليه. في الوقت نفسه، وباقتباس مشوه عن مغزى فيلم "شوشانك ردمبشين"، قد ننشغل بالحب أو بالموت. [يتحدث فيلم "شوشانك ردمبشين" عن شخص بريء يسجن ظلماً في ظروف فائقة الصعوبة ومع أشخاص يعانون القسوة، لكنه يستطيع التصالح مع نفسه ونسج علاقات مع من حوله، ومن ثم، التوصل إلى خلاصه الروحي]. حسب اندبندت عربية
اضافةتعليق
التعليقات