قد يواجه الكثير من الآباء علامات استفهام كبيرة في سلوك أبنائهم ولأنها غالباً ما تكون مؤلمة فانهم يطلقون العنان للخيال وللأوهام والشكوك بدلاً من المواجهة والحوار وإلى الانطواء بدلاً من الانفتاح والمصارحة ومن هذه العلامات:
1- لماذا لا ينصاع ابني لأوامري.
2- لماذا تخفض ابنتي صوتها في الحديث على الهاتف إذا دخلت إلى غرفتها.
3- لماذا تعتقد ابنتي بأني رجعية ولا أفهم شيء عن الحياة.
4- لماذا ينطلق ابني مع أصدقائه خارج البيت لكنه يضمر أحاسيسه معي.
5- لماذا تتعصب ابنتي معي في الحديث بينما تجدها لطيفة مع ميلاتها.
6- لماذا يخفي عني أولادي مشاعرهم ومشاكلهم وطموحاتهم ويفضلون الصمت على الحديث.
ومهما كانت القاعدة القيمية والأخلاقية للأبوين فإن هذه العلامات إشارات واضحة لشرخ في العلاقة مع الأبناء قد تتطور لتتحول إلى ثقافة سلبية عند الأولاد وفساد أخلاقي وأرضية خصبة للوقوع في فخ الجريمة والعصابات الإرهابية.
ومن هنا فإن إحدى أهم الجذور البعيدة التي تؤسس لظاهرة تمرد الأولاد والعقوق هي مشكلة الصم والبكم التي أصابت العلاقة بين الآباء والأبناء وفقدان الحوار، وهي قد تنشأ من عدم إيمان الآباء بالحوار ليس باعتبارها إستراتيجية أساسية لإيصال المعرفة والأخلاقيات والعادات إلى الطفل فحسب بل الأهم من ذلك لتبادل المشاعر وانتقال الأحاسيس من وإلى الأبوين لعمارة روح الطفل وتقوية الروابط الأسرية، ذلك لأن المعارف قد يحصل عليها الطفل والإنسان عموماً من خلال القراءة والتعلم المدرسي لكن المشاعر والأحاسيس النفسية لا تتكون ولا تنمو إلا من خلال التلاقح والحوار ومن دونها تتلاشى تلك الروابط لتحل محلها الحواجز والجدران السميكة التي تغذيها الظنون والشكوك والغيبة والنميمة والجهل بالحقائق ومن أسباب هذه الظاهرة:
أولاً: عقم الكلمات
أن يمتلك الآباء شهادات دراسية لايعني إيمانهم بأهمية الحوار في التربية واستمرار العلاقة المتينة بين الأبوين، ولا يعني بالضرورة ممارستهم للحوار داخل الأسرة، بل قد نجد أسرة تنعم بالحوار في ظل أبوين أميين لايمتلكان أي مستويات علمية أو شهادات دراسية.
فالحوار لا يستند على المستوى الدراسي للآباء بقدر مايعتمد على الإيمان بضرورة التواصل الأخلاقي والتربوي، وإحدى أهم مشاكل العصر هو إستئثار أجهزة التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية وغيرها على المحيط الأسري التي غيرت نمط العلاقات الاجتماعية من حالة التفاعل والتعاطي السلبي أو الايجابي برفض أو قبول إلى حالة تلقي واستغباء وتغاضي.
ثانياً: بلادة الإحساس
مع اللحظات الأولى للولادة تنبع نسيمًا من الأحاسيس والعواطف الدافئة أودعها الله تعالى في قلب الأبوين تجاه الوليد الجديد من ذكر أو أنثى وتستمر هذه الأحاسيس في تموجاتها إلى آخر لحظة من عمر الإنسان لتتعاظم أكثر عند الغياب والسفر والمرض، ومع أن هذه الأحاسيس غريزية إلا إنها تذبل وتضمحل وقد تصيبها لحظات صحوة أو كبوة تبعاً للأجواء والمؤثرات الخارجية لتصل أحيانًا إلى درجة البلادة والخمول وعدم الإكتراث بما يجري للأولاد من قبل الآباء.
لأن كل علاقة حتى وإن كانت غريزية كعلاقة الآباء بالأبناء أو مصيرية كعلاقة الزوج بالزوجة أو إنسانية كعلاقة الصديق مع الصديق تكون مصيرها جميعاً إلى البرود إذا لم تُصان وتسقى بالروح والثقة، بل وحتى إن كانت علاقة تكوينية كعلاقة الإنسان مع خالقه تعالى فإن مصيرها الجفاء والبعد إذا لم تروى بالعبادة والصلاة والصيام والدعاء التي تعبر عن صدق هذه العلاقة وإحدى مضامين الإيمان بالله.
ثالثاً: النظرة الدونية
الثقافة السائدة في الكثير من مجتمعاتنا هي الثقافة الإستعلائية التي نراها ماثلة أمامنا في نظرة الأغنياء للفقراء والمتعلمين للأميين وللرجال تجاه النساء وأخطرها نظرة الكبار للصغار وكأن الكبار لم يكونوا يوماً صغار قوم آخرين!
تنبع هذه الحالة من عقدة النقص والضعف التي تعيشها أنفسهم نتيجة عوامل تاريخية وإجتماعية وسياسية، تاريخية كإنعكاس للمعاملة الدونية التي عومل بها الآباء من قبل آبائهم وإجتماعية في النظرة العامة للمجتمع الذي ينظر إلى الطفل كعنصر هامشي ضعيف لاحول له ولاقوة ينشأ في ظل نفر من الأقوياء يستضعف فيها الأقوياء للضعفاء، وأخرى سياسية في سطوة رجال الأمن والدولة بأخلاقية السيد مع العبد في ولاية مطلقة لم تكن حتى لأنبياء الله.
رابعاً: التدخل المفرط
أن يحيط الآباء بأبنائهم من المقومات الأساسية لسلامة التربية، ولكن المهم أن يجد الآباء الآلية المناسبة التي تتلاءم مع المحيط الاجتماعي ونمط شخصية الطفل، ففي مجتمع منفتح مثل أمريكا يتحسس المراهق من أن يصطحب معه أباه إلى المدرسة لأن ذلك قد يحسسه بصغر سنه أو قلة نضجه أمام أصحابه الذين يتفاخرون بأنهم كبار ومستقلون سيما إذا كانت شخصية هذا الطفل قوية وتملك ثقة كبيرة بنفسها، وقد يكون الأمر مختلفاً مع طفل آخر لا يتحرج من صغر سنه أو نعومة جسده يعيش في بيئة محافظة كالجزائر مثلاً. ولكن مهما كانت نمط شخصية الطفل فإن علماء الطب النفسي للأطباء والمراهقين يؤكدون بأن حشرية الأهل وتدخلهم المفرط في شؤون أبنائهم مع الإكثار من الأسئلة: أين كنت؟ مع من كنت؟ هل أنجزت واجباتك؟ هذا الإلحاح والضغط المكثف يحدث شعوراً لدى الطفل بأنه غير قادر على تحمل المسؤولية، وغير قادر على التصرف السليم، ومن هنا يأتي العناد والتمرد والتحدي لإثبات الذات.
ونؤكد على ضرورة تغيير أسلوب الرقابة لا إلغائها والابتعاد عن إسلوب التصنت والتجسس البوليسي إلى فتح القنوات وإفساح المجال للحوار والإقناع والمشاركة في الرأي، والمساهمة في التنفيذ، وإلى الحزم والتحكم بلغة الحكمة الصينية التي تقول "إذا أردت أن تسيطر سيطر دون أن تبدي بأنك تسيطر أو تريد أن تسيطر"، وتغيير نمط العلاقة من لغة الآمر مع الجندي إلى لغة التشاور بين الشركاء وعبر الصداقة مع الأبناء في توازن ذكي من دون الاخلال بالقيم والمبادئ.
اضافةتعليق
التعليقات