أغلال تلتف حول معاصمنا حادة الأطراف يوم بعد يوم، ثم تزحف إلى كامل الذراع محاولة ان تصل اعناقنا فتجعل منا دُماً تحركها اهوائها وتزيح عنها نوراً نبحث عنه في ظلمات حكم الفاسدين الذي يتصلون بطريقة ما بزمن العصر العباسي الاول حيث ذلك القبو الذي لا يزوره النور فينقسم اناسنا لقسمين، منهم الجلاد بشتى تصنيفاته لطخت يداه او نطق لسانه، ومنهم من يقف متفرجا لا حول له ولا قوة ولكن قلبه متصل بامام زمانه داعياً الله لظهوره الى نور ابصارنا فنراه، فهم اشخاص الوحي بذاتهم ما حضروا مكان إلا وتألق بالنور، وما احتواهم زمان إلا وكانوا للأرواح غيث رحمة واسعة تمحو بتدفقها ما اثقل الصدور، وشلال ضوء ينير العتمة ويغسل الأرواح بماءٍ طيب طهور.
يوم في حياة راهب آل محمد
كلنا تمر علينا الكثير من الايام هباءً ، وتارة نستعيد وعينا فنقتبس منها عملاً صالحا ونبقى متقلبين بين هذا وذاك، إلا اناس اختارهم الله حملة اسرار الشريعة المقدسة وقادة الاسلام العظام، إن دخلَ المؤمن ساحة حياتهم ازداد يقينا وتألقا، واتسع أفق مضمونه الروحي ، فما اروع الابحار في عمق أنوارهم، والاطلاع على مضامين سيرتهم، لعلنا نغترف نوراً لعتمة روحنا التائهة، ومن انوار آل بيت محمد كان لنا التوفيق في الغوص بنورهم السابع من الائمة الاطهار الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليهما السلام)، متأملين ان نقتبس شيئا من ضيائه.
وتنطلق ارواحنا حيث يوم كتب الله تعالى فيه لبِشر، البشرى والخير، على يد راهب آل محمد (عليهم السلام)، حيث زقاقا يعيش بعض أهله الغفلة والفتنة والظلام، مكانا تلاشت فيه مواعظ الأنبياء واستأثر بالحكم على مدار الأعوام طغاة لئام، بثوا أكاذيبهم بعد أن قاموا بتنحية أهل البيت (عليهم السلام) عن مقاماتهم، وسجنهم وتعذيبهم، بل وعمدوا إلى تنشئة الأجيال على بغضهم، والتفاخر بسبهم ولعنهم على منابرهم، حتى هرم على ذلك الكبير وكبر الصغير، ونستشعره نحن اليوم في فئة باغية تبحث عن الحجة الباطلة لترمي ستارها الاسود وتكتم نورهم فيضيء الستار رافضا باطلهم فكل نور يمكن اطفائه إلا نور قد سار في الاصلاب الشامخة والارحام المطهرة وصهر جليد الجاهلية وحطم سلاسل الطغيان بتقواه.
فكان الله لهم نورهم وحضورهم الممتد امتداد الرسالة وضيائها المنير، ليخبروا الناس ان من كان مع الله كان الله معه، وهذا ما حصل مع بِشرْ الذي كان بعيدا عن الله تعالى ونهج الإسلام، ولكن شاء سبحانه أن يضع في طريقه عبده الصالح موسى بن جعفر (عليه السلام)، كان إمامنا يمر قريبا من دار بشر، وتناهى إلى سمعه أصوات الغناء والطرب ، وبينما هو يقطع الطريق متأسفا فتحت باب ذلك البيت وخرجت جارية تحمل بيديها القمامة، فتأملت في رجل عليه سيماء الصالحين، وقف سلام الله عليه عند الباب ليسألها سؤالا كتب له أن يغير حياة بشر ويكون للمتأملين على إمتداد الزمن منارا وعلامة، قال فدته النفوس: يا جارية صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ فأجابته على الفور: بل هو حر.
فهمس بصوت يشوبه الحزن: صدقت لو كان عبداً لخاف من مولاه!
وهنا نكون نحن في هذا القول ممن عليه ان يحزن فالكثير منا يعيش ايامه خائفاً من الناس ومبتعداً عن المولى لأنه ضمن رحمة الله وغفرانه وتناسى يوم الورود الذي ينقطع فيه كل شيء فلا يحمل الانسان معه سوى اعماله فيتلقى جزاء كل مثقال ذرة منها، وربما هذا ماراود بِشر في تلك الساعة.
حيث مضى الإمام عليه السلام في طريقه، فيما دخلت الجارية الدار مذهولة وهي تحاول فك رموز تلك الكلمات، لتقص على سيدها ما جرى معها، فكانت هذه الكلمات تطيح في أعماق بِشر كل الصروح المظلمة فأسرع مهرولا نحو الباب يطوي المسافات، باحثاً عن راهب آل محمد غيثاً لأرضه التي أضر بها الجدب وحنت إلى هطول المطر ، وتوقف الإمام عليه السلام ليرى بِشرا وقد غرق بدموعه، وكانت آهاته وعبراته تترجم ما حل بقلبه من تغيير، وتتكلم دون حروف لتعرب عن امتنانها لهدية الله الذي بعث له بوليه لينقذه من حر السعير، ويأخذ بيده إلى محال الخير ، فمد الإمام يده للعائد الى رحاب الله تعالى بعد طول صدود، وبين له كيف يمكن أن يستقيم فلا ينحرف مجددا ولا يعود إلى منكر حتى يوم الورود.
كان بِشر قد فتح مسامع قلبه لتلقي هذا الفيض العظيم، لتطفئ دموع الندم نيران الإبتعاد عن ساحة اللطف الإلهي، وفتحت نوافذ النور في قلب ذلك العبد لتحوله إلى تائب تقي، فصار من أهل الإيمان واشتهر بالزهد والعبادة والإحسان.
ويمكن ان نلخص العِبرة من الحدث في قول سليل المجد موسى بن جعفر (عليه السلام) لبعض ولده ينصحه: (يا بنيّ، إيّاك أن يراك الله في معصية نهاك عنها، اعرف مواقع معاصي الله لتبتعد عنها، واعرف أيضاً أنّ الله تعالى يبغض الذين يعصونه، لأنّهم يبتعدون عن مواقع رضاه، حاول وأنت تعرف مواقع المعصية ألّا يراك الله في معصيةٍ نهاك عنها، لا في كلمةٍ ولا في فعل، وإيّاك أن يفقدك الله عند طاعةٍ أمَرَك بها، فالطاعات معروفةٌ في ما أمرك الله به وأوجبه عليك، والله تعالى يريد أن يجدك عند مواقع طاعته لتحصل على مواقع رضاه).
اضافةتعليق
التعليقات