إن الانسان في محطات هذه الحياة لابد أن تكون له دائرة من العلاقات الإجتماعية التي يتصل بها وتتصل به، تقويه ويقويها لتستمر الحياة، ومن الأدوار التي يؤديها الانسان وبالمقابل ينتظرها ألا وهو "النصح" فتارة هو يكون ناصحاً، وتارة هو يحتاج إلى نصح الناصحين في أي شيء يريد تحقيقه، فالإنسان لا يستغني عن ذلك.
فعن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: "أيها الناس! إن لي عليكم حقا ولكم علي حق، فأما حقكم علي فالنصيحة لكم، وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب"(١)، فهنا يبين الامام إن هذا حق متبادل بين الناس، سواء كان إمام أو مأموم، مسؤول كان وله وجاهة أم فرد عادي في المجتمع في أن يقبل النصيحة، وأن لا يبخل بها لمن يحتاجها، فإنها تحفظ العلاقات كما ورد عنه (عليه السلام): "النصيحة تثمر الود"(١)، فهي دليل على الاهتمام والحرص على المقابل.
لكن في ذات الوقت على الانسان أن يكون واعي وحذر في معرفة ممن يأخذ النصيحة، فعن الأمير(عليه السلام) إنه قال: "اسمعوا النصيحة ممن أهداها إليكم، واعقلوها على أنفسكم"(٢).
وهنا يمكن أن نورد أصناف من الناصحين، مما جاء في كلام أئمتنا فعن أمير الكلام (عليه السلام) أنه قال: "طوبى لمن أطاع ناصحا يهديه، وتجنب غاويا يرديه" (٢)، فهنا قد يبين لنا صنفان:
الصنف الأول:- [الناصح المرشد للنجاة]، كما في قوله تعالى {... وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}(الأعراف: 79)، وهذا الناصح من علامة صدق نصحه أنه لا يريد لنفسه شيء، بل يريكم الحقيقة كما هي وهنا الأمر يعتمد على وعي الانسان وسلامة سريرته، فعدم امتلاك البصيرة وسوء السريرة الناتج عن الخوف على المصالح الشخصية والانغماس بزينة الدنيا وزخارفها تجعل من الانسان لا يحب النصح الذي فيه نجاته، فلا ينتفع منها، فعن الأمير(عليه السلام) إنه قال: "لا خير في قوم ليسوا بناصحين ولا يحبون الناصحين" (٢).
الصنف الثاني:- [الناصح الغاوي المهلك]، كما في نصح إبليس لأبينا آدم وأمنا حواء (عليهما السلام) فهو أراهما الجانب الايجابي فقط، كما في قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}(الأعراف: 21)، من كون تلك الشجرة بها يمكن أن يصلا إلى حياة الخلد لكن هذا التزيين أغفلهما عن تنبيه الله تعالى لهم من عدم الاقتراب منها، كما في قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} (الأعراف: 20).
فكلما كان الانسان ذو بصيرة كان ممن يرى صدق النصيحة في ناصحه فيأخذ بها، كما في قوله تعالى:{وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}(القصص : 20)، وبالمقابل هو أخذ بنصحه كما في قوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(القصص: 21).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): "اتبع من يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش" (٢)، هنا يبين لنا الامام صنفان هما:
الصنف الأول:- [الناصح الداعم والملهم]، هو صاحب النظرة المتوازنة الذي يفتش على الطريق قبلك، يخاف عليك كنفسه، ويفرح لك، يشجعك، يرى نجاحك نجاحه، وبنفس الوقت ينبهك، ويحذرك، وقد يمنعك فلا تتوان عن الأخذ بمشورته، فهذا خير ناصح يقيك الطريق المهلك، ويغنيك في الطريق السالك الجيد.
الصنف الثاني:- [الناصح الغشاش]، هو الناصح الذي تكون نظرته ظاهرها إيجابية وبشكل مطلق، الذي يشجعك ويدفعك لخوض كل تجربة يراها جميلة وتستحق أن تخاض دون أن يفتش معك على سلبياتها وايجابياتها، خطرها وأثارها الخفية، هو معك أين ما ذهبت ونصحه التشجيع دائما للإقدام، فهذا لا يعول عليه فقد يشجعك لطريق فيه هلاكك، وقد يوافقك على ترك طريق فيه فلاحك ونجاحك.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): "النصيحة من الحاسد محال" (٣)، فهذا الصنف يمكن أن نعبر عنه: [الناصح المثبط]، وهو ذلك الذي تكون نظرته سوداوية دائما للحياة ولنفسه فتنعكس على خطواته وحياة غيره ممن له علاقة بهم فلا يصدر منه إلا ذكر العثرات والصعوبات التي ستلاقيها، بل يتصيد عثراتك ليذكرك بأنه قد نبهك سابقاً، فهذا لا يريدك أن تصل لشيء على كل حال، ونصحه خالي من المسؤولية أو الصلاح، فلا تأخذ بنصحه، وعلامة سوء نصحه إنه ليس مفلحاً في الحياة فهو قد يكون ممن في نفسه حسداً وحسرة على عدم وجود هدف يعيش له، أو أنه ضيع أهدافه، أو ممن يعتقد أن الحياة لم تمنحه فرصة ليصل لما يريد، فيريد إنزالك إلى هاويته، ويرى أن الجميع إما أخذوا فرصته، أو إنهم لن يبلغوا ما يريدون كما هو.
-----
(١) ميزان الحكمة: ج ٤، ص ٣٢٧٩.
(٢) نفس المصدر، ص ٣٢٨١.
(٣)نفس المصدر، ص ٣٢٨٠ .
اضافةتعليق
التعليقات