الأرض تهتز وكل من تواجد شعر بذلك، لكنها ليست هزة أرضية؛ بل كأنها هي! إغرورقت العينين بالدموع واتّحدت معًا تلك القطرات لتنزل على صحن خديها تاركه أثر الألم واللوعة، لم تكتفِ بهذا بل علا صوتها بالنحيب!.
ليس في يد (بسملة) كتاب يحتوي على قصة أحزنتها لتبكي هذا البكاء، ولم تكن متابعة لمشهد من التلفاز يستوجب كل هذا، ولم تكن في حلم لعلها تأثرت به.!
هاهي معنا في نقطة التفتيش، وما إن انتهى دورها ذهبت لغرفة الاستراحة محاولة غلق الباب لكي لا تسبب الاحراج لنفسها إن علا صوتها إلا أن قاعدة الباب تعثرت ببقايا قلم رصاص مكسور مهمل؛ مما جعلها تترك المحاولة وهكذا بقي الباب مفتوحا لنصفه.
جلست وحدها ومرة أخرى تشعر بأركان البناية تهتز، بل الجدار الذي تستند عليه، المنظر رهيب مع حرارة الجو المتصاعدة، والنداءات من كل حدب وصوب، تكاد القلوب تغادر الصدور، صوت الدمام عالٍ جدًا، يرافقه المزمار، وصوت بوق، والرياح كأنها هي الأخرى تشاركها البكاء، ويبرز صوت الصريخ كأنه يستغيث ينتقل متماشيًا مع الجميع إلا أنه فاقهم بصوته المخيف.
مستمرة (بسملة) في سيرها بأروقة الطف رغم جلوسها مع زميلاتها وعودتها بعد استراحتها.
وتعلو الأصوات والآلات تؤدي عملها بإتقان وفوق الإتقان؛ حتى تُنقل الأحداث بأمان إلى هذا الزمان. وفعلا كأن الطف قائمة حرب، ودخان، وصوت الصهيل، وبكاء الأطفال، وحيرة صوت الإعلام ماذا يكتب؟ وعن أي خبر؟ وكيف يقاوم؟.
لكن الله زرع في قلبها الارادة التي بها احتوت كل الأطفال وقامت بتهدئة القلوب الخائفة، التي تصورها الأحداث الآن من خلف الجدار، (بسملة) ترى صورة للسيدة زينب (عليها السلام) تَجسدت بتلك الطفلة الصغيرة على كتف أمها خائفة من ذلك الصوت تدير برأسها تحاول أن تخبئه تحت عباءة أمها التي تحاول هي الأخرى سد منافذ السمع بإدخال أصابعها في اذنيها تقليلا وتخفيفا بمحاولة منها لطرد الخوف عن صغيرتها، وطفل آخر تجاوز منصة التفتيش، إلا أنه تسمّرَ في مكانه مع اتساع في حدقة عينيه يداري خوفه بالنظر إلى من حوله مطمئنا نفسه بالكلمات التي يسمعها منهن. إذن هكذا كانوا الظلمة وقساوة القلب يفعلون، يخيفون الأطفال بل في ذلك يتسابقون.
ساد الصمت أجواء المكان، وبعد فترة قليلة من انقطاع الزائرات، تذكرت بسملة التل الزينبي الذي يرحل كل عام بعد العاشر من محرم ويعود بعد الأربعين مع السبي، ذلك التل الذي بقي مَعلمًا ليشهد أن زينب (عليها السلام) وقفت عليه ونادت أخيها الحسين، تذكرت قربة سيدي العباس (عليه السلام) حينما ظل الماء يبكي؛ لأنهم خرقوها وانهدر الماء منها وضاعت آمال سكينة والأطفال اليتامى.
تذكرت رقية الطفلة المحبوبة عند والدها الذي ينتظرها عند كل صلاة لتفرش له السجادة، ومرت على الأقراط العائدة لها سرقوها بكل وحشية، إلى الآن تشكو الألم والجرح لازال ينزف!.
ويستمر الموكب الحسيني مع كل هذه القلوب التي عُجنت بماء الفطرة بولائها لمعشوقها تصاحبهم آلاتهم ليجسدوا الطف وماجرى على ساحة الحق، التي كادت أن تُزرع بألغام الخيانة والحقد والتزوير.
لقد ذبحوا أعمدة النور لتسريع العتمة، لكن الدماء أضاءت الظلمات كلها.
من هنا بدأت الحكاية ...
اضافةتعليق
التعليقات