نشرت سيدة قطرية "في خدمة الوطن لإنجاح أكبر حدث عالمي" وهي تتحدث عن جهودها المتفانية في تنظيم جانب من جوانب كأس العالم الذي سيقام في قطر.
هنا استوقفتني المفاجأة وداهمني الذهول، لم أفهم الجملة أول الأمر، عدت لها عدة مرات حتى استقرت في داخلي بما يكفي لفهمها، تركيب هذه الجملة غريب على إدراكي تماماً وكذا معناها، فما عهدته عن الجمل التي تسبق أو تلي عبارة "في خدمة الوطن" هي جمل تحمل روح الشقاء ومرارة التضحيات الجسام، ورائحة الموت.
إن المهام المناطة بمن يأمل خدمة العراق هي مهام ليست بالمهام التي يمكننا أن نصفها بسهلة، لم تكن كذلك بالتأكيد على مدى مئة عام المنصرمة على الأقل، فكلها "بالروح، بالدم"، فحياة من يعمل بالسياسة والسلك العسكري والصحافة حياة محفوفة بالمخاطر في كل الأوطان وهو أمر معروفة أسبابه، أما في العراق فكل الشعب بكل أطيافه وأصنافه ومهنه يعيشون حياة أقل ما يقال عنها خطرة، في ظل دولة لا يعلو صوت القانون فيها، وينخر الفساد بأشكاله كافة طبقات المجتمع، تصبح مهنة الطبيب كل يوم خطر من أجل الوطن، فقد تقتله رصاصة غادرة ممن لا يعترف بالقضاء والقدر، ويصبح المهندس الأمين الذي لا يتنازل عن الجودة في خطر، والمدير الذي لا يمرر الصفقات الفاسدة في خطر، والأستاذ الذي يؤدي عمله بإخلاص ولا يرتضي منح الشهادات لغير مستحقها في خطر، وكل فرد في ظل هذه الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية يعيش على أرض رخوة زلقة، كل خطوة هي خطر، بل يمكننا القول إن اختيار العراق للعيش هو فعل فدائي من أجل الوطن.
إن هذه الحالة بالغة التعقيد تشكل فكر الفرد العراقي وتحسر خياراته القيمية بين أمرين:
أبيض شائن: لا موت ولا وطن.
وأسود نبيل: موت ووطن.
هذه العقلية ستدفع الشعب وإن استقرت الأوضاع إلى خلق مزيدٍ من الفوضى، فلم يعتد على غير هذين الخيارين، لا يعرف كيف يتصرف إن عم الهدوء، ولا يدرك كيف يعيش ويبني الوطن، لا يعرف ماهية التقدم، وما هي آلياته، ولا يؤمن بأنه قادر على أن يسمو باسم الوطن عالياً في مصاف الدول الكبرى وإن كان يردد أنه يأمل أن يرى غداً مشرقاً.
أن يعيش المرء من أجل ازدهار الوطن لهو فعل شاق حقاً، فيتوجب عليه أن ينير عقله ويهذب طبعه أولاً، ويتزود بالعلوم والمعارف والمهارات ثانياً، ثم يعمل عملاً مجهداً دون انتظار اعتراف من الجماهير أو مراتب مرموقة أو مبالغ طائلة، ثم يتحلى بإيمان راسخ بحتمية الغد المشرق حتى في أكثر الليالي حلكة، وأخيراً ينفق أوقاته في نقل إيمانه هذا للآخرين وإن واجهوه بالسخرية فهو بحاجة إلى قبائل تخدم الهدف ذاته، تدعمه أولاً ثم يتوارثون المسير بعده في طريق المجد، أي إن حياة كاملة مهما امتدت منذورة للوطن على أن يكون النذر مثمراً يقيناً، وذلك الثمر حلو لا ريب فيه.
أما الموت فهين على بؤسه الذي يتركه على الأحياء، فكلنا في أي لحظة قد نموت من أجل الوطن دون متطلبات خاصة، وذلك يخلصنا بشرف رفيع من عناء العيش المضجر.
اضافةتعليق
التعليقات