إنه اليوم الأول لي وأنا على ساتر المعركة لم أعتد على سماع صوت أزيز الرصاص وهو يُطلق كرذاذ الماء من فوهات البنادق من حولي لتخترق الأجساد بلا رحمة، كانت الشفقة تملأ قلبي حتى اتجاه العدو ولكن الحرب لا تفقه لغة القلب.
الصفوف الأمامية تثير الريبة، لاذ الكثير بالانسحاب من حولنا إلا هو ظل يكر على العدو دون وجل.
أدركت بأني أحتاج لقوة أكبر حجما مما كنت عليها لأواصل الثبات هناك، بلغت الحرب ذروتها... الغبار المتصاعد وعلو أصوات البنادق يدل على أن لا مفر من الموت هنا.
أشار إليّ أحدهم وسط الزحام بالعودة بالرغم من فسحة الأمل التي تسللت إلى أعماقي بالنجاة إلا أن عيني بقيت تراقب المكان المكتظ بغبار المعركة، أرى أقدام بعكازة تترجل من كل صوب تارة يمينا وتارة أخرى شمالا حاولت أن أخبره بأنه بقي وحيدا ملوحاً ومنادياً إليه لعله يراني لكن شجاعته حالت دون ذلك، لم أشعر حينها إلا بيد أحدهم سحبتني بالقوة إلى الخلف صرخت قائلا: بقي أحدا هناك..
- إنه كارا .... أجاب مسرعا لا يعود مطلقا حتى ينتهي النزال.
كرار رزاق الجناحي الاسم الذي تصدر قائمة الشهداء بقي يذاع اسمه بشكل حماسي، كان يعتلي الحزن وجوه رفاقه حينما يذكر اسمه لتغص قلوبهم وتغرغر أعينهم بالدموع .
سكنت الأصوات وخمد دوي الانفجار، ترجلت مسرعا بخطى تتخبط ببعضها، أتبع أنيناً تناغم إلى مسامعي من أرواح تقطع نياط القلب حشرجتها وهي تزهق بأنفاسها الأخيرة..
رحت أبحث بشغف عنه، كان عكازه المربوط بمفصله خير دليل لمعرفته... نعم إنه هو كارا.
ربما أجاب الموت على تساؤلاتي بعدم عودته
إلا أن هناك أسئلة بقيت واقفة.
بينهم من يقول، من بعدك من سيتنكر بثياب الدواعش ليندس بينهم ويرصد أوكارهم؟
وآخر يقول هل ستليق ثياب الزفاف لأحد غيرك؟
وآخر ينادي ألن تعود للديار لتنهي جامعتك كما وعدت أباك؟
لذت بالصمت ولمحت سكرة الفرح تلوح إليّ من بعيد مغادرة المكان على حين غرة عاجزا على إيقافها.
سقط كرار شهيدا، احتضرت أشياء كثيرة معه وتوقفت عن النبض، جثوت على ركبتي أستجمع قواي، أردت اخباره بأنني أصبت بأذى شديد لا يرى حينما شهدت مصرعه، كان أكثر حظوة مني حينما نال شرف لا يضاهيه شرف آخر.. مات الجمال في جوفي للأشياء واكتشفت أني قد استسغت رؤية الدمار وما عادت تقززني الدماء، تجلد ذلك القلب الهش وأصبح ملبدا بالصلابة، أدركت بأن النصر لن يكون دون أن تغلفه الدماء.
عدت إلى الديار مخذولا وأنا برفقته ملبيا لوصيته التي كانت آخر ما تمناه قبل أن يستنزف الموت البارد أنفاسه الزكية بأن أنثر (الجكليت) على نعشه مناديا بموكبه المهيب:
(الله أكبر لا إله إلا الله الشهيد حبيب الله)
اضافةتعليق
التعليقات