أمست بقایا النهار تتجه صوب حجلتها، تزفها زقزقات الطیور التي مازالت تأمل بالتقاط بعض الحب و الفتات المنثور علی حواف الرصیف الممتد إلی نهایة الشارع.
شرع اللیل یسدل عباءته السوداء علی عروس النهار محتضنا عذراءه حیث السكینة و الهدوء لیتمتم لها عن عشقه الجامح، ناصحا لها بالستر و العفاف فقد انتهت ساعات الكشف و التعري. فاختشت الشمس طائعة وراء التلال المحیطة بالمدینة من كل جانب.
كانت سناء جالسة علی إحدی المقاعد المرصوصة في حدیقة الحي، تستند إلی ظهر الكرسي الخشبي الذي حفر علیه بعض المارة ذكریاتهم الصاخبة، رغم هدوء الحبیبة الجالسة بقربهم علی استحیاء .
مبعثرة الأفكار أخذت تستعرض شریط الأحداث في الأمس. لیلة شتویة هادئة و دافئة، لا یبدو علیها اختلاف عن دجی مثیلاتها .
أخذت تعد طعام العشاء المختصر بحساء الشوفان اللذیذ الذي اعتادت طهوه بمهارة الطباخین؛ حیث كانت تضیف لقطع الدجاج كوبا من الشوفان و بعض الذرة المطبوخة و شرائحاً للفطر الغني بالبروتین، بانحناءة حوافه المحفزة لذكریات قصص الطفولة و صور الفطر النامي بین حشائش الغابة.
كان عمها جالساً كعادته عندما یعود مساءا یتابع نشرات الموت الأخباریة متأففاً، مغمغماً بكلمات غیر مفهومة و هو لا یكف عن تغییر جلسته كل خمس دقائق.
تراكض الأولاد لیستقر الجمیع حول المائدة استعداداً لتناول الحساء الذي باتت رائحته الشهیة لا تقاوم.
سكبته في الطبق الرئیسي المصنوع من الفخار المطلي باللون الرصاصي اللامع و الغامق، تتخلله نقوش و زخارف حرفیة آخذة في التعرج و التلوي حوله برشاقة و غنج .
أضافت له رشة ملح، ثم زینته بحفنة من البقدونس الأخضر بأوراقه المتقوسة الباعثة علی البهجة و الإنشراح. بعدها رسمت وجهاً باسماً علی صفحته بالصلصة الحمراء فبدا كمهرج یحث علی الإبتسامة.
تناول العم ابو فراس طبقه بسعادة و فخر، إذ راح یتباهی في سره أمام أخیه ابي أمجد الذي لا یكف عن التذمر و السخط من طبخ كنته الشمطاء، بأطباقها الباهتة الرتیبة، المشفوعة بالمنیة والاستكبار.
شكرها الجمیع و انصرف الأولاد یتابعون ما تبقی من واجباتهم، بینما جلس فراس إلی جانب والده یتناقشان التطورات الراهنة في المنطقة.
لم یمض من صرف العشاء نحو ساعة و إذا بوجه ابي فراس یحمر و یصفر حتی بدت في وجنته انتفاخة غیر معهودة ترافقها قطرات العرق التي أخذت مسیرها عبر تجاعید جبینه الممتدة حتی أسفل ذقنه.
أما أنفاسه فكانت لاهثة و متلاحقة .
قفز فراس من مكانه مهرولاً نحو غرفة والده محضراً حبة الضغط لیضعها تحت لسانه ثم یطیر به نحو المشفی .
كانت شیاطین الموت تتقافز أمامه بسخریة فقرر حینها أن یتحداها .
حدا به نحو غرفة الطوارئ التي شخصت علی الفور حالة ارتفاع الضغط و أخذت الإجراءات الإسعافیة مجراها.
راحت الأفكار تخوض حربا ضروسا في دماغها، لا تنكفئ تترنح علی نشیج كارثة لم تقع. أوشكت علی قتل أنسان یحبه زوجها و أولادها حد الجنون.
مازالت تشعر بالغثیان. أرشة من الملح كافیة لتصیر إنسانا علی حافة الموت؟!
كیف لم تنتبه لذلك؟! كان تأنیب الضمیر یحز في نفسها كنسغ مئات من الإبر في أطرافها .
ماذا حدث؟!
هل كان ذلك صفعة من صفعات القدر لتصحیها من غفوتها؟!
هب النسیم لطیفا محركاً الأشجار لتصدر حفیفاً ناعماً یداعب النفوس الحساسة.
في عمر لحظة عادت لتفكر كم من رشات الملح رشت هنا و هناك دون أن تدري؟!
هل زادت من رشة الملح عندما طالبت ولدها الشاب بقضاء یوم الجمعة كاملاً في المذاكرة إستعدادا للإمتحان النصفي الذي سیحین موعده بعد أسبوع؟!
لا تعرف بالضبط لماذا تناهی إلی خلدها جدالها الأخیر مع فراس قبل یومین عندما عاد متأخراً في المساء، و كلما حاول جاهداً تبریر ذلك بأنه انحرج فعلاً أمام صدیقه الذي قام بدعوته و استضافته لم تستسغ الموقف!!
هل من الضروري حقا التخبط في جدال لیل نهار مع ابنتها التي ستكلف بعد عام و نصف، للقیام بواجباتها الشرعیة كأداء الفرائض و غیرها من أمور بینما لم یطالبها الباري عزوجل بجلاله و رخص لها ذلك حتی سن البلوغ؟
ألیست هناك طرق بدیلة لاستدراج الفتاة؟!
ألا یمكن تأجیل غسل الصحون إستثناءا إلی صباح الیوم التالي بعد نهار متلاطم و تعب لاذق لأغلب أفراد الأسرة، و استبدال ضجیج الطناجر و قعقعتها بهدوء اللیل و سكونه الفارض أحیانا علی الأقل؟!
بعض الأمور لطیفة بعفویتها و سذاجتها، جمیلة كما هي، كبراءة الطفال و ضحكهم علی الجزئیات، فلماذا إذا الإصرار علی رشها بجرعات إضافیة من الملح لیفسد مذاقها؟!
حتی القانون یمكن تطبیقه بلطافة، كما هو الحال في الطبیعة الأم .
هل لاحظنا یوما كیف تنتقل بین الفصول بهدوء و رویة؟
أم كیف یتبادل اللیل والنهار الأدوار بسلاسة ومهارة؟!
هل سمعنا یوماً همس الشمس الربیعیة لبراعم الزهور المتفتحة لتصیرها فواكه شهیة و مغریة، توسوس الناظر لقطفها؟!
من ذا الذي أنصت لتراتیل دودة القز الراقدة في الشرانق لتحیل المستحیل إلی واقع إذ تتحول إلی فراشة تغزو الحقل جیئة و ذهاباً؟!
هذا هو المطلوب بالضبط! إضافة الهدوء و الصبر و التریث و العفویة و الضحك علی كل أطباق الحیاة الیومیة. إحذري إذا رشة الملح ....
اضافةتعليق
التعليقات