"الإنسانية" شعار من عِدّة حروف حَمل في جعبته توّحداً جماهيرياً، لم تشهد بقية المصطلحات مثيله منذ الأزل، فقد كانت ومازالت دولة الإنسانية تَضمُّ العالم من كافة الأعراق والأجناس وتجمعهم لُغةٌ السلام والأمن النفسي والقومي.
فقد شكّلت كينونة الإنسان دوره في البحث عن سُبل الكمال والاتصال بالمصادر التي من شأنها أن تُطهر تلك النفس، ومن هنا كانت انطلاقة مشروع الإنسانية التي تبنّته المنظمات الدولية رافعة شعار "حق الإنسان فوق كل شيء".
ولّما كان تحقيق الإنسانية هدف، فلابد من وجود نقطة بداية تكون رمزاً نقياً، تتكامل فيه كل معاني الهدف، فقد جنحت منظمات حقوق الإنسان إلى اتخاذ نماذج من العصور المختلفة لتكون الوجه الإعلامي لها، أمثال مارتن لوثر كينغ، مهاتما غاندي ونيلسون مانديلا وغيرهم من القادة الذين بصموا في سجل الزمن، فلا يمكن البدء بأي مسيرة إصلاحية معنوية كانت أم مادية ما لم يتوفر أساسٌ قويم ترتكز عليه أهداف تلك المسيرة.
اتخذت منظمات حقوق الإنسان في الآونة الأخيرة نهج الحياد بعيداً عن الانتساب الديني والمعتقد المذهبي الذي يحمله البشر معلنةً في ذلك أن مذهب الإنسانية لا ينتمي لدين معين وإنما الوازع الخُلقي هو الذي يسيطر عليه، ولكن هل يحق لمن يَدعي أنه يحملُ عبء البشرية أن يضع صورة أكمل إنسان في إطار مجهول وربما غير المحبب في أذهان الغرب؟ إن كان للأخلاق والعطف دور في سمو هذه الرسالة فلماذا لا يُسلّط الضوء على إنسانية ذي الخُلق العظيم؟
خُلقُ السيف بين الرسالة السماوية والشعارات الغربية:
عادة ما تؤخذ الانطباعات الأولى عن الأشياء في الأذهان البشرية عند التعامل المادي أو المعنوي مع تلك الأشياء وقد تلعب الإشاعات المُرَوجَة دوراً خطيراً في موقف الأمم، فعند ذكر الإسلام في المجتمعات الغربية، تكون الخلفية الدموية والنهج اللا إنساني انطباعهم الأول عن مفهوم الإسلام، متفادين في ذلك أي جهد للإطلاع والبحث عن رسول هذا الدين العظيم، فقد أسهبت المنظمات المعنونة بالإنسانية في نشر الوجه الدموي للإسلام ورسوله معتمدين في ذلك على فِرقٍ همجية إرهابية لا تمتُ لقيم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشيء، ولكن إن كانت القضايا المصيرية تُنَظَم تحت طاولة القضاء الإنساني، فغالباً ما يكون المُحامي مُجرماً.
يقول المؤلف الأمريكي باتريك هينغسون (1) : "تستخدم الدول العظمى هذه المنظمات المشهورة بوجهها الحقوقي والإنساني لغسل الأدمغة وهذا ما يسمى بغسيل الضمائر".
وقد وضح في لقاء له، أن عنوان الإنسانية يُستخدم كقناعٍ واق لهذه المنظمات لنشر الفساد والسياسات القسرية التي من شأنها قلع جذور المجتمع الإسلامي وتصيره مجتمع سطحي يتلاشى مع هتافاتهم.
لا تُقبل الإدانة عادة ما لم تجتمع الأدلة الموضوعية عليها، فإن تطرقنا للإدانات المتوجهة إلى رسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله) عن لسان هذه المنظمات وغيرها من ذوي الضمائر المسيّسة، من حيث خُطى القتل والعنف الذي ينتهجه (كما يدّعون) فإن ذلك يستحثُّ فينا البحث والتدقيق لنستقر بالبشرية على شاطئ الحقيقة.
ينقل الشيخ عباس القُمّي في كتابهِ (مُنتهى الآمال) خطبة النبي (صل الله عليه وآله) للمسلمين إذا أقبلوا على غزوة معينة: "....... ولا تغدروا، ولا تغلّوا، ولا تمثلّوا، ولا تقتلوا وليداً، ولا متبتلاً في شاهق، ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعا، لأنكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه، ولا تعقروا من البهائم ممّا يؤكل لحمه إلا ما لابد لكم من أكله... " (2)
لو تعمقنا في منهج الحرب في المفهوم الإسلامي لوجدناه يقوم على أساس الدفاع عن النفس والدين والمذهب ولا يشمل البدء بالقتال إلا بعد إلقاء الحُجة. قال تعالى:
"وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (3)
فقد نص الإسلام في جوهره وعن لسان وخُلقِ رسوله أن الدين هو المعاملة، وضمان الحقوق والحريات لكافة صنوف المجتمع التي تهتف بها المنظمات المُستحدثة، كانت قائمة في نهج النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وقد حمل التاريخ الإسلامي في سجّله مواقف مُحمدية راسخة في العقول من ضمنها (عهد الدفاع المشترك) الذي أقامه الرسول (صلى الله عليه وآله) بين يهود الأوس والخزرج ومسلميهم، والذي حمل في مضمونه أول الخطوات للتعايش السلمي وتَقبّل الآخر الذي يدّعي الغرب بأننا نتجرد من مفاهيمه.
سياسة العدلِ والمساواة:
(العدل والمساواة في الحقوق بين البشر)، البند الأكثر شيوعاّ في الخطابات والهتافات التي تبنّتها تلك المنظمات الغربية والتي تزعم بأنها قد حققت جوهر المساواة وذلك بالمطالبة بالحقوق الإنسانية على وجه العموم مهما اختلفت أجناس البشر أو أعراقهم، ولكن قانون العدل لا يتحقق إلا بتساوي المستويات بين الراعي والرعيّة، وهذا ما افتقر إليهِ دٌعاة العدالة.
عن أبي عبد الله (ع) قال: "قال رسول الله (ص): سيدٌ الأعمال إنصافُ الناس من نفسك ومواساة الأخِ في الله وذكرُ الله عز وجل على كل حال".(4)
لم يُسجّل التاريخ في أي موطن من مواطنه أن رسول الله باتَ ليلةً في داره وكانت المدينة تَضمٌّ جائعاً أو مظلوماً أو طالب حاجة في دواخلها، فقد كان عادلاً في نفسه وقوله وفعله وماله وقُوته وملبسه ومسكنه، وقد عَدَلَ بين المسلمين حتى في نظرتهِ، فعن أبي عبد الله (ع) أيضاً أنه قال: "كان رسولُ الله (ص) يُقسّمُ لحظاته بين أصحابه فينظرُ إلى ذا، وينظرُ إلى ذا بالسوّية." (5)، فهل شهدَ عصرنا مَقّر منظمة إنسانية يقبُع بين مخيمات للاجئين، أو في القرى التي عمّتها المجاعة وقلّة موارد الحياة؟! ومن هنا يمكن للمرء أن يميز الكفة الأعظم.
ديدنُ التواضع:
"التواضع أن تعطي الناس ما تحب أن تُعطاه" (6) هكذا فسر لنا الرضا (ع) هذا المفهوم العظيم الذي إن تجسد في المجتمعات البشرية لنَمت بعده جميع المفاهيم التي من شأنها أن تسمو بالأمم نحو مستوى "خيرُ أمة أخرجت للناس"، ولذا كان رسول الله (ص) يُمثّل في شخصهِ أمة بأكملها، حيثُ أن التواضع في أرضٍ كانت منبعاُ للتكبّر هو جهاد أعظم وصبرُ طويل حتى الرمق الأخير.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ «عليه السلام» يَذْكُرُ أَنَّه أَتَى رَسُولَ الله «صلى الله عليه وآله» مَلَكٌ، فَقَالَ: إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ يُخَيِّرُكَ أَنْ تَكُونَ عَبْداً رَسُولاً مُتَوَاضِعاً، أَوْ مَلِكاً رَسُولاً.
قَالَ «عليه السلام»: فَنَظَرَ إِلَى جَبْرَئِيلَ وأَوْمَأَ بِيَدِه، أَنْ تَوَاضَعْ.
فَقَالَ (رسول الله): عَبْداً مُتَوَاضِعاً رَسُولاً.
فَقَالَ الرَّسُولُ (يعني الملك): مَعَ أَنَّه لَا يَنْقُصُكَ مِمَّا عِنْدَ رَبِّكَ شَيْئاً.(7)
فأين خُلقُ التواضع في نهج المنظمات التي تهتف بالإنسانية؟ فهل انحلت المناصب في سبيل التغلغل بين صنوف المجتمع؟ أم أن هتافاتهم تتجرد من معانيها؟!
فإن جاب التساؤل عقول البرّية عن سبب الطعن في شخص محمد (ص)، فقد يلمس العاقل إجابته فيما سبق، فإن كان للظلمة مصالح دامسة فستدفن النور لتُقُنع الأبصار بأن الضياء أسود.
"الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"( 8 )
فرسول الله (ص) الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، المُحلُ للطيبات والمُحرِّمٌ للخبائث، الرافع عن هذه الأمة أغلال الجهل والعبودية، والحاملُ لنور التحرر للعالم كافة، فمن أراد أن يعرف معنى الإنسانية وكُنهها، يمكن أن يُدرك ذاتها في خُلق محمد (ص).
اضافةتعليق
التعليقات