الأمومة عالم آخر، لا تفقه خوالجها إلّا من أصبحت أمّا بحق، الأمومة أن تكون المرأة في أجمل حالاتها، وفي أشد عنفوان عطائها، وفي أعلى قمم تضحياتها.
عندما كنا صغارا، كنا نرى العالم من خلال عيون أمهاتنا، نلمس دفء الحياة في أحضانها، ولعل قبلة منها ترفعنا الى أعلى درجات الأمان، تلك الخصلة التي تشعرنا بأنّا بخير ما دامت أمنا إلى جانبنا..
افتقاد الأم وغيابها عن الصورة، كالذي يحدث في غزة الآن، يثير في نفوسنا مكامن القهر، حين نرى أطفالا صغارا يهيمون على وجوههم حيارى، بينما تُغيّب أمهاتهم عن حاضرهم بسبب القتل الممنهج لقوات الإحتلال الاسرائيلي، انه واقع مرعب حقا، لا يشعر ببشاعته الا من اكتوى بناره.. تنقلب حياتهم الى جحيم لا تطيقه طفولتهم الغضة، فلا يستطيعون نجاةً مما هم فيه، ولا سبيل لتلافيه.
الحيرة التي يخلّفها فقدان الأم، يشعر معها الطفل بالحرمان التام، فلو أُعطي هذا الطفل، أو أُسعفت حالته من ذوي الأيادي الخيّرة، سيبقى شعور الحرمان يرافقه طوال حياته، لأن وجود الأم لا يمكن تعويضه بأي حال من الأحوال.
سيفتقد الطفل عالما كاملا بأسره، سيستبدُّ في نفسه الإشتياق حين تمر أمّا بجانبه، أو حين تقع ناظريه على منظر أمٍ تحنو على وليدها، ستظلّ أمّه في عينيه على قيد الوجود، ما دام فيه عِرق يضرب، ستظلّ حيّة في تلافيف ذاكرته الطفولية، في صمته.. في غيابه القسري عن دنيا الحنان.. في ملامح وجهه وتفاصيل جسمه، وفي ذكرياته ويومياته التي لن ينساها.
أما الأطفال الذين ولدوا ولم يروا وجوه أمّهاتهم، ولم يلمسوا فعل الأمومة في كيانهم، مثل هؤلاء قد فاتهم الكثير الكثير، فلا أحد بمقدوره أن يعوض لهم شعور النقصان، أو يملأ لهم فراغا يستشعرونه ليل نهار، كتب أحدهم يقول: يتيم وضع علبة كارتون كبيرة أمامه، أجرى عليها المقص، عمل منها حضنا، زيّنه بالأشجار والعصافير والأنهار كما الجنة.. نام وسطها!
انها حقا جنّة تمشي على قدمين، بل هي جسر الحب الصاعد بنا إلى الجنان.
(كان رجل من النساك يقبّلُ كل يوم قدم أمه، فأبطأ يوما على إخوته، فسألوه فقال: كنت أتمرّغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أنّ الجنة تحت أقدام الأمهات).
وسواء كان هذا الحديث وأقصد (الجنة تحت اقدام الامهات) ضعيف السند ام لا، كأكثر الروايات التي اختلف فيها الرواة، فالأم تبقى لأولادها جنة وارفة ، يتفيأوون ظلالها، ويشعرون بالأمان في جنبها، فإن عاشت أغدقت عليهم من حنانها، ما يكفيهم زادا لرحلة حياتهم، وإن ارتحلت عن عالمهم، استشعروا الحرمان من فيض أمومتها..
فالله.. الله في أمهاتنا، ممن هنّ باقيات على قيد الحياة، برّوهن بأعظم البر، كي تنالوا الحسنى والجزاء العظيم.
ولنا في وصية نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله) عظة كبيرة، فعن عباس بن مرداس أنه قال: يا رسول الله إني أريد الجهاد. فقال النبي: ألك أم؟ قال: نعم. قال: إلزم أمّك، فإنّ الجنّة عند رجل أمّك.
اضافةتعليق
التعليقات