على جدران سوق المدينة زينت السيدة أم كريم صناعتها اليدوية التي كانت مصنوعة من السعفة وبقايا عود القش، فرسمت لوحة فنية تراثية فقدت منذ زمن في السوق العراقي، وبعد عودتها أصبحت تسر الناظرين الذين يفتقدون التراث العراقي بكل ما فيه من الصناعة والفن.
وتعد صناعة القش من أقدم الصناعات اليدوية التي كانت في العراق، وليست بهذه الصورة التي يراها البعض بمجرد تجديلها في الأصابع فهناك دقة في العمل وتحتاج إلى ذهن صاف وتركيز شديد، فهذه خريطة ذهنية ترسم زخرفة الأعواد وغير قابلة للخطأ وتحتاج إلى ساعات طويلة من العمل الشاق.
السيدة ام كريم تسرد لنا حكايتها مع القش:
أنا وهذه الأعواد في قصة من الحب والانسجام لا تنتهي فهي تعرفني من لمسة يدي وأنا أعرفها من لونها، عشرون عاما وأنا أعمل بهذه المهنة، حتى تآكلت أصابعي وتمزق بعضها، فهي صلبة أول قطعها ولاتترك الأوراق تحت أشعة الشمس حتى لا تجف وتتكسر وبعد غسلها وتركها حتى تصبح مرنة ونتمكن من تلوينها وصناعتها، نحتاج الى إبرة معدنية صغيرة حتى نخيط أطراف العمل، وتختلف الزخرفة من عمل إلى آخر، ففي الصيف نتجه إلى صناعة (المهفة) والحصير، متامسكة بين بعضها بدقة مع بعض الرسوم وصبغها باللون الأحمر مع الأخضر، على أشكال مختلفة دائرة حلزونية، ومستطيلة، في نسيج من القش المزخف، وعرضه في الأسواق الشعبية.
وتقل الطلب على هذه الصناعة في فصل الشتاء حيث أصنع المكانس، توارثت هذه الحرفة عن والدتي وجدتي رحمهما الله، فقد اعتدن في الماضي على فرش الحصير القش وتغطية السقف بها، ومازلت أتذكر عدم خلو البيت العراقي من (المهفة).
اليوم تراجع الإقبال عليها ودخلت البدائل في المجتمع العراقي فأصبحت الأجهزة الكهربائية وذات البطارية الاضافية، ومع اختلاف الأجيال، اصبحت لا قيمة لهذه الحرفة مع أنها تمثّل ماضي جميل جدا، وتحولت إلى مجرد تحف للزينة.
مع هذا لم أستطع أن أترك المهنة التي ورثتها عن عائلتي وأجلس ساعات طويلة لنسج السلال من القش المزخرف، وخطوات العمل هي البدء بعقدة صغيرة من سعف النخيل تحيطها بأعواد وترتفع مع كل مرة.
ورغم اندثار هذه الحرفة إلا أنها باتت مصدر رزق لعائلتي، ولزوجي السبعيني، وكل ما اجنيه هو خمسة وعشرون دينار مقابل 40 مهفة.
بتنهيدة وحسرة يكاد يسمعها البعيد قبل القريب أكملت حديثها السيدة أم كريم وهي تقول: تبقى تراث آبائي.
عزيزي القارئ قد تسأل ما هي المهفة؟
في المصطلح العراقي تجد هذه الكلمة أول ما تذكر في فصل الصيف وهي عبارة عن أعواد من (الخوص الرقيقة) مركبة على شكل مربع ويدخل في حياكتها عصا (اليدة) حتى يتمكن المستخدم من تحريكها لجلب الهواء.
وانتشرت صناعة هذه السلال على اختلاف أنواعها في بغداد والمسيب وكربلاء المقدسة والنجف الأشرف، البصرة، بعقوبة، وكردستان. وقد اشتهرت النساء الريفيات بهذه الصناعة.
بين ماضي عميق وحاضر أنيق فُقدت بعض الحرف وعلى أنين أصحابها تغفى الأجيال. عزيزي القارئ هناك سلسلة من المهن والحرف التي ستناولها قريبا هنا في واحة بشرى حياة فكن بالقرب.
اضافةتعليق
التعليقات