ومازال الأنين بقلوبهم يقرعُ الطبول وذلك الصوت الشجي بداخلهم لا ينقطع ورغم الألم الذي اجتاح العديد منهم إلا أنه مازال يمكث في سريره يتابع ويدون كل مايدور حوله من مجريات وأحداث رفيقهُ القلم بدل الألم ومؤنسه السهر بدل القهر.
اضطجع على سريره وغط في نوم عميق، على أنينه الشجي مع بعض الصرخات استيقظ طاهر.. شاب لم يبلغ من العمر الثالثة والعشرين مع والده الذي يدفع به بكرسيٍ متحرك يمشي خطوات ثم يحاول الابتعاد عنه مطأطأً رأسه واضعاً يده على شاربه الكث الذي غزاه الشيب يتأوه تارة ويعيد النظر إلى ابنه تارةً أخرى وبعينيه الجاحظتين وذبولهما وبملامح كستها تجاعيد الزمن الغابر..
أخرج قراطيسهُ وبدأ يكتب.. رجل كهل قد أخذ الزمان منهُ حتى شعره الأسود ليستبدله باللون الأبيض تقرأ على ملامحه الحزن والتعب يدفع بكرسي ابنهّ المصاب كأنه يدفع بسنوات عمره المتبقية، صراخ الشاب جعل الأنين يسكن والهدوء حل في جميع الأرجاء ويعتلي صراخ الشاب وأنينه وكلماته التي تجعل القشعريرة في جسد كل سامع..
لا أحتمل الألم سأموت يا أبتاه سأموت وبكلتا يديه يضغط على رأسه وينفش شعره ويصرخ ويئن والأب مازال يُردد تحمل ياعزيزي تحمل كن قوياً لم يبقَ إلا القليل..
وكيف أحتمل يا أبي الألم يأكل جسدي..
يطئطئ رأسهُ بضع ثوان ثم يُعاود الصراخ كأن موجة من الألم انقضت على أجزاء جسده..
لا تختلف ملامح الشاب عن والده الكهل فلا يبدو خالياً من الهموم بل بدا مُكبلاً بالوجع المرير..
لم أستطع اللحاق بهم دخلوا إلى عدة غرف يبدو أنهم أجروا بعض التحاليل ولحسن الحظ كانت العكاز قريبة علي اجتاحني الفضول لأرى أين سيذهب كنت أراقبهم عن كثب ادخلوا الشاب إلى غرفة العمليات بعد التقبيل والدموع التي مُزجت بين الأب وأبنه لم يدع موقع في وجهه إلا وقبله وأخيراً قبله من فمه وهو يقول له حاول أن تردد أعني ياالله مهما استطعت.. جاء أحد الممرضين وأخذه من والده كأنه أُماً قد أُخذ منها صغيرها الوحيد..
خرج الوالد وجلس على أحد الأريكات الموضوعة في المشفى ليتني أدخل إلى قلبه لأرى أي غليل وأي بركان قد أوقد فيه، جاء موعد علاجي لكنني أبيت أن آخذه قبل أن أطمئن عليه.
بعد مايُقارب الساعة خرج الطبيب تكلم مع الأب حاولت أن انصت له وأستمع لما يقول لكن ضجيج المرضى والمراجعين منعني من الإستماع له، خرج الوالد، ملامح وجهه أخبرتني بالنتيجة رغم هذا سألت مرافق الطبيب فرد متسائلاً:
هل لك صلة قرابة بالمريض؟
فأجبتهُ بالنفي..
الحمد لله العملية نجحت والشاب على مايرام أسعدني سماع ذلك ولشدة فرحتي بسلامته لم أساله عن سبب خروج الوالد..
عُدت إلى غرفتي ما إن وضعتُ قراطيسي حتى سمعت ضجة وصراخ يبدو أنها خارج المشفى خرجت رغم ألمي وإذا برجل كهل قد اصطدم بسيارة عند باب المشفى ويحمل بيديه بعض الطعام والعقاقير ويبدو أن الدكتور قد طلب منه احضارها بين زحمة الناس أخرجوه لم أتمالك نفسي يا إلهي ماذا أرى، مات ليمنح سنوات عمره المتبقية لابنه وعلى صوت مرافق الطبيب رفعتُ رأسي..
للمرة الثانية أسالك هل لك صلة قرابة بالشاب الذي اُجريت له العملية؟
سبق وإن قلت لك لا.
وبعينين مغرورقتين قال لي: إن الله لطيفُ قد أيقظ الشاب وشافاه ليُفرح والده وأخذ عمره وهو مطمئن على صحته وسيأخذ روح الشاب قبل سماع خبر والده وهو مشافى..
ومِن دون وعي رميت العُكاز وبدأت أصرخ بوجهه..
ماذا تقول أتعي ماتقوله أتسمع أُذناك ماينطق بهِ لسانك ماذا تعني بسيأخذ روح الشاب؟
بلى يبدو إن الشاب يحتضر!
تلك اللحظات كنت أحمل فيها حزن الذي عاد للتو من دفن عزيز، لا يد تعينه لنفض تراب القبر من على كتفيه، بقت كلماته في مخيلتي:
تحمل ياعزيزي لم يبقَ إلا القليل..
اضافةتعليق
التعليقات