كعادتها تجلس وسط السوق الصغير الذي يتوسط منطقتنا الصغيرة تفترش الأرض ببسطتها المتواضعة التي اعتادت أن تبيع فيها الخضروات بانتظار أقدام المتبضعين، تجاوزت عقدها الخمسيني, وما زالت ترفض أن تستسلم لليأس وتصارع من اجل البقاء وتأبى أن تجلس حبيسة البيت وجدرانه المتآكلة التي تحمل ما تبقى من ذكريات حزينة وتسجل آثار دموع تساقطت من عينيها الذابلتين في لحظات الألم والعوز التي أهلكت الكثير, ترفض أن تقع فريسة المرض والفراش لتصبح مع الهامش بعد أن ينساها الجميع وسط زحمة البحث عن لقمة العيش ومتاعب الحياة.
أم زينب لطالما دعوتها بالمرأة الحديدية تشبه الجبل الشامخ عندما تقف أمامك تستعرض بضاعتها بحركات خفيفة مصحوبة بكلمات عذبة, كانت تتوسط السوق لتبيع الخضار بأنواعه, كنت اتسائل لماذا تركت أم زينب بيتها لتقف هنا وسط حقبة من الرجال والمارين وسط صخب هتافات الباعة وخطى أقدام المتبضعين, وبعد صراع طويل مع النفس لملمت جرأتي وترجلت نحوها متوجسةً, ألقيت التحية عليها, فردت بأحلى منها مع ابتسامة تتفجر حياة وسرور وكأنها لا تقف على منصة خضار وسط كل هذا الصخب والضجيج, بل كانت تملأ لبها السعادة, وأنا كنت ابحث عن بدايتي لحديثي حتى قلت لها هل لديك أطفال يا خالة؟
فقالت: "سبعة فتيات"
فعدت لسؤالها: "وكيف تركتيهم ولماذا؟"
فاسترسلت بحديثها تسرد قصتها بالعمل الذي قد فرض عليها حيث قالت:
"ليس لدي معيل, كل من الأقارب والأرحام لديه حياته وليس باستطاعتهم أن يعيل عائلة متكونة من ثمانية أشخاص, بعد وفاة زوجي منذ عشرين عاما, لم أجد أمامي إلا أن أتحمل المسؤولية ففكرت أن اعمل, وبقيت أفتش عن عمل يتناسب مع قدراتي ومعلوماتي البسيطة بالحياة, لكني عجزت عن إيجاد أية فرصة عمل تناسب مؤهلاتي وما كان أمامي إلا إن افترش بسطية صغيرة في هذا السوق لأبيع الخضروات".
وتابعت حديثها: "لا أنكر إني واجهت صعوبات عديدة في بادئ الأمر, ولا أنكر أن عمل المرأة في الأسواق الشعبية شيء صعب ونظرة المجتمع لا ترحم لكن أنا اعمل في هذا السوق منذ عشرين عاما ومعظم أصحاب المحال أنا ربيتهم وهم يساعدوني كثيرا, وهذه ليست صعوبة بالنسبة للمرأة التي تعمل إنما الصعوبة تكمن حينما أرى أبنائي يتضورون جوعا وأنا اتطلع اليهم وأقف مكتوفة الأيدي, فاخترت لنفسي هذا العمل لاوفر لنفسي ولبناتي ما احتاج من متطلبات المعيشة المضنية".
بهذه الكلمات أنهت أم زينب حديثها البسيط بكلمات ارتجالية, نقلت من خلاله واقع المرأة العراقية التي لم تجد فرصة للتعليم وأجبرتها الظروف للعمل لمواكبة متطلبات الحياة وضجيجها المعتاد.
ومن جهتها تسرد أم إبراهيم: "ما من امرأة تتمنى أن تجلس في وسط السوق, كثيرا ما كنت أتحرج من عملي, لكن الحرمان الذي قاسيته حينما أصبح زوجي طريح الفراش مصابا بالشلل بعدما داهمته دراجة نارية ألقت به بثقلها لتهشم فقرات ظهره, أنساني كل شيء لأجد نفسي أقف في منصته التي رفض أن أقف بها خوفا علي من الناس وانتقاداتهم اللاذعة, أجبته حينها أن المرأة العفيفة تقف كالنخلة لا احد يتجرأ عليها طالما هي تحترم قدر نفسها سيحترمها المقابل, وستكبر بأعينهم ويصبحوا لها عونا, وهذا ما حصل بالفعل".
واصلت حديثها قائلة: "لقد استطعت أن أسد احتياجات البيت وأعيل زوجي وبناتي الأربع وولدي إبراهيم, الذي أترقبه كل يوم لأجل أن يكبر ويشتد عوده ويقوى ساعده حتى يكون عكازي في هذه الحياة الشاقة".
ومن جهة أخرى أبدت أم تمار إعجابها بالمرأة العاملة حيث قالت: "أرى الكثير من النساء يزاولن مهنة البيع في الأسواق الشعبية كمصدر رزق لهنّ ولعوائلهن ولا أرى أن هناك ضرر في هكذا مهنة, فتكون بائعة للخضراوات أفضل من أن تمد يدها طالبة العون ويرهق وجهها ذل السؤال, بالعكس أقف لها وقفة احترام وأقبل الجبين امتنانا لعفتها وصلابتها للحصول على لقمة عيش بالحلال والكثير من النساء اللواتي يعملن فهكذا مهنة كُنّ أمهات لأطفال أصبحوا أطباء ومدرسين ومهندسين, بفضل جهودهن ومواجهتهن للحياة, بعدما فقدن المعيل كـ الزوج أو الأب أو الأخ خصوصا نحن العراقيين قد فقدنا الكثير بسبب ويلات الحروب التي عصفت بالشعب العراقي والتي خلفت نساء باتت وحيدة تبحث عن عيش ورزق بسيط يسد احتياجات أفراد عائلتها".
بينما تناقضها الرأي أم تقى قائلة: "أنا لست على اعتراض لعمل المرأة لكن عملها في السوق أجده غير مناسب, وليس كل النسوة هن مضطرات للعمل هذا, فهناك سيدة اعرفها تبيع الثياب في محل صغير وكلما ذهبت للشراء منها بعض الأشياء أجدها تقتني الذهب وفي كف يدها خواتم وأساور في معصميها, مما يثير تساؤلي إن كانت غير محتاجة لما تجلس هنا هي غير مضطرة للجلوس في السوق ينظر لها كل من هب ودب".
وتابعت حديثها قائلة: "وحينما سألتها إن كان لديها أطفال فقالت إن زوجها يعمل معها في السوق أيضا وأبنائها احدهم منتسب في الجيش والأخر يملك سيارة أجرة يعمل بها, فهنا يكون بيتها وعيالها أولى بها, أما إذا كانوا لا ينفقون عليها فهذا بحث آخر, إلا إني استبعد هذا الشيء".
رؤية اجتماعية
وتشير الباحثة الاجتماعية شهلاء داود سلمان الدهش إلى: "ان نتيجة للظروف الاقتصادية الضعيفة لبعض العوائل العراقية والسبب كثرة الشهداء في العراق دفع المرأة العراقية للعمل في الأسواق الشعبية لسد احتياجات أطفالها دون الحاجة إلى الآخرين ولإرضاء الله, في سبيل تهيئة معيشة محترمة وبعزة النفس فهي لن تذهب إلى طريق خاطئ فعلى المجتمع أن يحترم هكذا نساء لان ظروف الحياة أجبرتها على هذا العمل وعلينا كأفراد أن نغير هذه النظرة السلبية لان تغيير نظرتنا سيغير انتقادات المجتمع القاسي إلى المرأة العاملة في الأسواق الشعبية".
رؤية شرعية
وفي الجانب الشرعي حدثنا الشيخ عبد الرزاق محمد علي حيث قال:
"حسب ما يذكره المشرع الإسلامي إن المرأة غير ممنوعة من ذلك إذا لم يتناف مع التزاماتها الشرعية، بل ربما يجب كما إذا توقف عليه تأمين نفقة نفسها أو نفقة من تجب نفقته عليها كأولادها مع فقد الأب والجد أو الأخ".
وأضاف: "إن الشرط الأساس هو أن لا يتنافى العمل مع تكاليفها الدينية، ومنها الستر والحجاب، ومنها عدم الحضور في المكان الذي لا تأمن على نفسها فيه من الوقوع في المعصية، ومنها رعاية حقوق الزوج إذا كانت متزوجة، ومنها رعاية حقوق الوالدين إذا كانا حيّين".
ختم حديثه قائلا: انا شخصيا لا أشجع على عمل المرأة في السوق, فستكون أكثر عرضه للنظر وما غيره, خصوصا ان كانت غير مسنة وجميلة, أما إذا كانت تعمل موظفة فيكون أفضل لها من جميع النواحي, لكن الضرورة والاحتياج تكون أقوى على الأغلب, مما يقود بعض النساء للعمل في الأسواق الشعبية".
اضافةتعليق
التعليقات