بالرغم إن المتبادر إلى الذهن من قوله تعالى: { أَلَمۡ یَجِدۡكَ یَتِیمࣰا فَـَٔاوَىٰ } هو إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يتيما، إلا إن بعض المفسرين فسّروا اليُتم في الآية بمعنى التفرّد؛ أي وجدك فريدا في خصائصك وصفاتك الحميدة؛ كما يقال: جوهرة يتيمة أي فريدة في صفاتها وجمالها فلا يوجد لها مثيل؛ فالله تعالى وجد محمدا فريدا في صفاته ليس له نظير بين خلقه فاصطفاه للنبوة والرسالة، وليكون يتيم الأمس ملاذا للأيتام وقائدا للبشرية.
ومع إن هذا الرأي كما يُقال بعيد عن ظاهر الآية إلا إن نبينا (صلى الله عليه وآله) كان بالفعل إنسانا فريدا في شخصيته الكاملة، وسجاياه الباهرة، وجاذبيته الفذّة التي تجعل القلوب تميل إليه بل تعشقه، تلك الجاذبية التي اتّسم بها منذ كان صغيرا، فكان طفلا محبوبا يتعلّق به قلب كلّ من يراه، وكان جدّه سيد مكة عبد المطلب أول العاشقين له، وهو الذي كفله بعد فقده لأبويه.
ومع إن من الطبيعي أن يكفل الأجداد أحفادهم اليتامى، لكن العلاقة التي كانت تربط شيبة الحمد بحفيده، وشغفه به كانت علاقة من نوع آخر، مبنيّة على معرفة الجدّ معرفة يقينية بمستقبل حفيده، وبالمجد الإلهي الذي ينتظره، فعبد المطلّب كان يعلم بأنّ خاتم الأنبياء والرسل سيكون من صلبه.
تقول الروايات التأريخية إن وفدا من سادات قريش برئاسة عبد المطلّب وفدوا على سيف بن ذي يزن ملك اليمن لتهنأته بانتصاره على الأحباش، وفي خلوة للملك مع عبد المطلب أفضى إليه بسرّ، وطلب منه إخفائه عمّن كان معه، والسرّ يتعلّق بالنبي الخاتم، حيث قال له: "وإني وجدتُ في كتب بني إسرائيل صفته أبْيَن وأشرح من القمر بين الكواكب، وإني أراك جدّه"، فقال عبد المطلب: " أنا جدّه أيها الملك" !.
ثم أشهده بأنه مؤمن برسالته، وتحسّر لأنه لن يدرك أيامه!
إن جواب عبد المطلب: " أنا جدّه أيها الملك" يدل بوضوح على أنه كان عالما بأن حفيده هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن نور محمد (صلى الله عليه وآله) كان ينتقل في أصلاب آبائه ثم في صلبه وصولا لصلب ابنه عبد الله .
هذا العلم اليقيني جعل عبد المطلب حريصا على حفيده كل الحرص، شغوفا به إلى درجة عالية، تقول الروايات إن عبد المطلب كان رجلا مهابا، وكان بنوه التسعة يفرشون له فراشا بظل الكعبة؛ فلا يجرأ أحد على الجلوس على ذلك الفراش اجلالا له، ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يأتي ويجلس على ذلك الفراش، وعندما يحاول أعمامه تنحيته يقول لهم عبد المطلب: "دعوا ابني، فوالله إن له لشأنا عظيما، إني أرى أنه سيأتي عليكم يوم وهو سيدكم، إني أرى غرّته غرّة تسود الناس" .
وعندما حضرته الوفاة أوصى عمّه أبا طالب ليكون الوصيّ عليه وشدّد عليه الوصية، وكان أبو طالب الخيار الوحيد الذي اطمأنّ له عبد المطلب من بين جميع أولاده ليعهد إليه بتربية الطفل اليتيم خصوصا إنه الأخ الشقيق لعبد الله، ومما قاله له: "انظر يا أبا طالب أن يكون من جسدك بمنزلة الكبد"، وأوصاه أن يتّبعه وينصره بلسانه ويده وماله؛ وهذا دليل آخر على علم عبد المطلب بالدعوة المحمدية الآتية! .
وكان أبو طالب بدوره عالما بنبوة ابن أخيه؛ فكان له نعم الكفيل، ونعم الوصيّ لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار، ولا يأمن عليه أحدا أبدا، وعندما بُعث كان أول من آمن به وآزره ونصره .
لقد بشّر الأنبياء السابقون بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله)، وذُكرت تلك البشارات في الكتب القديمة؛ فعرفها الكثير من علماء اليهود والنصارى، أمثال بحيرا الراهب الذي التقى بالنبي (صلى الله عليه وآله) في بُصرى الشام عندما كان طفلا برفقة عمه أبي طالب،؛ فعرفه مباشرة من الصفات التي قرأها في الإنجيل؛ ونصح أبا طالب بالحفاظ عليه من كيد اليهود، لذا عاد به أبو طالب إلى مكة، ولم يدخل الشام مع قافلة قريش .
وقد ذكر القرآن الكريم في آياته معرفة أهل الكتاب بالنبي الخاتم (صلى الله عليه وآله)، وإن اسمه وصفاته الجسمية والروحية، وكتابه الذي سيأتي به، كلها مذكورة في كتبهم السماوية، وإن تلك الصفات من الوضوح والجلاء بحيث لا مجال للمراء فيها، فهي ترسم صورة كاملة للنبيّ في ذهن كل من يطّلع على تلك الكتب، كقوله تعالى: { ٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ یَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا یَعۡرِفُونَ أَبۡنَاۤءَهُمۡ }!.
هذه المعرفة السابقة بالنبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) وبعثته أمر لا بدّ منه؛ لتكون دليلا على حجيّته العظمى، ولأن البعثة من الحوادث الكبرى فلا يمكن أن تحصل بغتة بحيث ينصدم الناس بحدوثها المفاجئ؛ بل لا بد من التمهيد لها، ولابد من مبشّرات تسبقها؛ فكان ذكره (صلى الله عليه وآله) معروفا لدى الكثيرين ممن سبقوا البعثة أو عاصروها، تلك المعرفة التي جعلت البعض ينتظر ظهوره بشغف ولهفة، والبعض الآخر يتحسّر على فوت فرصة تصديقه ونصره، كما أهّلت القلوب النقية المستعدة لتلقي الفيض الإلهي للإيمان به، وقبول دعوته.
إن يوم المبعث الشريف بحق يوم من أيام الله المقدسة، حين انحدر حبيب الله من جبل النور، مجلّلا بمهابة وحي السماء، جبينه الوضّاء يرشح عرقا، وقلبه يخفق ببشرى الانعتاق من ربقة الجهل والظلام؛ ليختم ما سبقه من رسالات، ويفتتح للبشرية مستقبلا جديدا، ولتبدأ على يديه الكريمتين ملحمة كبرى اسمها: "محمد رسول الله" .
اضافةتعليق
التعليقات