في تاريخ البشرية، شهد العالم تحولات جذرية في قيمه وأنماطه الفكرية التي تحدد سلوك الأفراد والمجتمعات، ومن بين هذه التحولات، يمكننا ملاحظة الانتقال من عصر العقل إلى عصر الرغبة حيث أصبحت الرغبات الفردية مركزية في تشكيل القيم والسلوكيات.
وهذا التحول ليس مجرد تغيير ثقافي، بل هو ظاهرة مركبة تعكس تأثيرات التكنولوجيا، الاقتصاد، والاجتماع على النفس البشرية، كما أن ابتعاد الانسان عن أصل فطرته التي خلق بها سببت خللا كبيرا على توازن الحياة البشرية، وجعلته في مواضع كثيرة يسقط إلى القاع بدلا من الارتقاء إلى العلا.
ويمكن تفسير هذا التحول الحاصل من عصر العقل إلى عصر الرغبة من خلال العديد من العوامل التاريخية والثقافية والاقتصادية التي أثرت على تطور المجتمعات البشرية. وهذا التغير ليس مطلقًا أو حاسمًا، بل هو عملية معقدة ومتعددة الجوانب. وفيما يلي أبرز المحاور التي توضح هذا التحول:
1. التغيرات الاقتصادية والاجتماعية:
الرأسمالية الاستهلاكية: مع تطور النظام الرأسمالي، أصبحت الرغبة محركًا رئيسيًا للسلوك الاقتصادي. الشركات والمؤسسات تسعى لتلبية وتحفيز الرغبات بدلاً من الاحتياجات الأساسية فقط.
الثورة الصناعية والتكنولوجيا: إتاحة السلع بكميات كبيرة وبأسعار معقولة جعلت الناس يركزون على الرغبات والمظاهر بدلاً من الضروريات.
2. الثقافة والإعلام:
وسائل الإعلام والدعاية: تطور وسائل الإعلام خلق ثقافة استهلاكية حيث يتم الترويج للرغبات الشخصية والمتعة اللحظية بشكل مكثف.
وسائل التواصل الاجتماعي: أدت إلى تعزيز الفردانية والسعي وراء الإشباع السريع للرغبات مثل الشهرة أو القبول الاجتماعي.
الثورة الرقمية والاقتصاد الرقمي: العالم الرقمي عزز هذا الاتجاه، حيث يُقدم إشباع الرغبات الفوري عبر تطبيقات وخدمات تركز على الراحة والترفيه.
3. الفلسفة والحداثة:
الابتعاد عن العقلانية الصارمة: الفلسفات ما بعد الحداثية أعادت التفكير في مفاهيم العقلانية والعقل، وركزت أكثر على التجربة الذاتية والعاطفة.
تراجع الخطابات الأخلاقية التقليدية: ضعف تأثير المؤسسات التقليدية مثل الدين والفكر الأكاديمي أفسح المجال لتأثير أكبر للرغبات الشخصية.
4. التحولات النفسية والعاطفية:
التوجه نحو الفردية: أصبح الإشباع الفردي للرغبات جزءًا من تعريف الذات والهوية، مقارنة بالماضي حيث كان العقل الجمعي له الأسبقية.
الضغط النفسي وتراجع الإشباع الداخلي: مع التعقيد المتزايد للحياة الحديثة، يبحث الناس عن الإشباع السريع كوسيلة للتعامل مع القلق والضغط.
دخل العالم منذ فترة ليست بقليلة مرحلة جديدة وهي مرحلة التفاهة فقد خرج من منطقة العقل ودخل منطقة الرغبة وباتت الأغلبية الكبرى من المجتمعات تقاد اليوم بقراراتها وفق الرغبة وليس العقل والمنطق، وأكبر دليل على ذلك هو أن مفهوم الرغبة بات غير محدود اليوم في المجتمعات الغربية بل توسع جدا على مستوى الفرد وترك للشخص حرية الاختيار والجري خلف رغباته في أمور كثيرة تتعارض مع العقل والفطرة.
ولا يخفى علينا بأن العالم العربي لا زال منبهرا بالحضارة الغربية ويعتبر اول المستوردين لأفكار وتجارب الغرب الحداثوية حتى وإن كانت لا تتوافق مع العقل والمنطق، ولأن الغرب اتجه بشكل مباشر الى الرغبات وصنّف الحقوق والحريات وفق مرجعيات فردية وفرضها على الناس كان لابد لنا هنا أن نقف وندقق جيدا في مصدر الحقوق والحريات التي شرعت وعلى أي أساس استندت.
إذ إن دخول المجتمعات الإسلامية إلى عصر الرغبات لا يتوافق أبدا مع الحرية الحقيقية التي جاءت بها الأديان السماوية.
على ماذا تستند مرجعية الحرية في الغرب؟
يشرع المجتمع الغربي حرية الانسان وفق مرجعية فردية، مع العلم أن كل شخص يرى الحرية بصورة مختلفة عن غيره لأن العقول لا تتشابه في تفكيرها وقناعاتها اذن هنا نجد بأن المرجعية الفردية لا تعتبر مشروعة لأنها تخضع لتغيرات بحسب عقول الناس ورغباتهم في تشريع ما يجدونه مناسب وما يجدونه غير مناسب.
وخير دليل على ذلك الحرية التي منحها الغرب في اختيار الانسان لنوعه وتجاوز فطرته وعقله، بل وتطلق على ذلك اسم الحرية، أي ان الشخص الشاذ هو حر!.
ولكن الإسلام يرى الشاذ عبدا، لأنه امتثل لأهوائه ورغباته وكان بإمكانه ان يرتقي بنفسه لكنه فضل ان ينزل الى القاع ويفضل الحيوانية على الإنسانية!.
أي انه تجاوز عقله وفكر برغبته، فالإنسان الذي يجري وراء رغباته كيف له أن يكون حرا؟!
اذن أساس مشكلتنا مع الغرب في سن الحريات والحقوق هي المرجعية التي يتبعونها في وضع هذه الحقوق وما هو الأساس الذي استندوا عليه؟، ومن الذي يقول بأن هذه الحقوق هي فعلا حق؟
نحن نؤمن بأن المرجعية الحقيقة لكل الحقوق والحريات هي المرجعية الدينية لأنها ترى الحرية بأنها الوسيلة للقيام بالقسط على عكس الغرب الذي يرى الحرية بأنها المرجعية لما سواها.
وان الحرية ليست بحد ذاتها قيمة حتى تتيح لك السير وراء رغباتك معصوب العينين لأن الحرية نابعة من الإرادة والإرادة قد تكون خيرا أو شرا، -أي ان تريد فعل الخير أو فعل الشر- بينما القيمة هي حسنة بذاتها ومستحسنة على عكس الإرادة التي تحمل النقيضين معا، إذن الحرية ليست قيمة كما يدعي الغرب.
وهنالك الكثير من التناقضات التي نشهدها اليوم في التشريع الغربي للحقوق والحريات فليس الأمر جديدا عليهم، اذ أن هنالك الكثير من الأمور التي لا يسمح لمن تجاوز السن القانوني القيام بها وفي حال تجاوز القانون قد يتعرض الى السجن او الغرامة المالية ولكن في نفس الوقت نشاهد اليوم كيف أن الغرب ترك حرية الاختيار للطفل في تحديد جنسه او حتى اختياره أن يكون حيوانا أو إنسانا في سنين حياته الأولى وقبل أن ينضج عقله حتى، كل ذلك تحت مسمى الحرية التي تكون بالأساس مقرونة بالرغبة... أي انا ارغب أن أكون هكذا وأنت عليك أن تتقبلني مثلما أنا، حتى وان لم تتوافق رغبتي مع العقل او المنطق.
ومقابل ذلك نجد التشدد الكبير في القوانين التي تأطر المواطن الغربي في إطارات محددة يقابله أي مخالفة في ذلك إما الحكم القضائي او الغرامة المالية، بحيث لا يتجرأ أي مواطن على تعدي الحدود القانونية التي تسنها الدولة، ولكن فيما يتعلق بالفرد فمن الطبيعي ان تسمح الدولة بأن يتعدى الانسان على فطرته بل ويتجاوزها دون أن يثير ذلك أي اضطرابا في كينونة الدولة الغربية وكل ذلك تحت مسمى الحرية الشخصية.
بعد كل هذه التناقضات والتحولات الخطيرة التي تشهدها المجتمعات للنزوج إلى عالم الرغبات والماديات من المهم جدا ان نفهم بأن المرجعية الفردية غير قادرة على صياغة الحريات بمعناها الدقيق الذي يضمن حقوق الجميع، لأن المرجعيات الفردية او البشرية متغيرة بحسب سعتها العقلية او المكانية بينما المرجعية الدينية صالحة لكل مكان وزمان وصممت بطريقة الهية بارعة تساعد الانسان على الارتقاء والازدهار لا الانحطاط والسقوط كما تفعل الحضارة الغربية اليوم من سن حقوق وحريات تساهم في الخروج عن الطبيعة البشرية والفطرة الإنسانية، وتعزيز قيم الفردية والانغماس في رغبات الذات على حساب القيم الإنسانية العميقة التي توازن بين الحرية والمسؤولية.
فقد أفرز هذا العصر الذي تسيطر عليه الرغبات أنماطًا من الحياة تركز على الإشباع الفوري والتخلي عن المعايير الأخلاقية التي تحكم سلوك الإنسان، مما أدى إلى إضعاف الروابط الاجتماعية وتفكيك المبادئ التي تحفظ للإنسان كرامته.
وإن الحل الوحيد يكمن في العودة إلى فهم أعمق للحرية من خلال المرجعية الدينية التي جمعت بين حق الفرد في تقرير مصيره وواجباته تجاه المجتمع، لتحقيق توازن حقيقي بين الحقوق والواجبات، وقدرة الإنسان على العيش بشكل أصيل يتماشى مع المبادئ الإنسانية السامية.
اضافةتعليق
التعليقات