تعتبر الصحيفة السجادية للإمام علي بن الحسين (عليه السلام) منجماً معرفياً، ووثيقة تشمل على رؤية كونية تجلي الكثير من الحقائق المتعلقة بعلاقة الإنسان مع ربه، وهي منطقة لتحديد آليات الرؤية لما يكون عليه الإنسان والصحيفة السجادية موسوعة شملت على الأدعية والمناجاة والابتهالات والقيم العالية، وسميت بزبور آل محمد بما تضمنته من مبادئ الأخلاق والحقوق والواجبات والآداب، حيث تعالج مشاكل الفرد والمجتمع.
وتنشر مشاكل الفرد والمجتمع، وهي بؤرة المراجعة الذات من خلال تهيئة الأجواء الروحية مما زاد في أهميتها أنها جاءت في عصر طغت فيه الأحداث الرهيبة، والمشاكل السياسية القائمة على حياة المسلمين فأحالتها إلى سحب مظلمة ليس فيها أي بصيص من نورالإسلام وهديه وإشراقه، فقد انشغل المسلمون بالتكتل المذهبي والسياسي، سعياً وراء مصالحهم وإطماعهم، ولم يعد هنالك أي ظلال روحانية الإسلام وتعاليمه وآدابه وحكمه، ولقد فتحت الصحيفة السجادية آفاقاً جديدة للوعي الديني، لم يكن المسلمون يعرفونه من ذي قبل.
فقد دعت إلى صفاء الروح، وطهارة النفس والتجرد من الأنانية والجشع والطمع، وغير ذلك من النزعات الشريرة، كما دعت إلى الاتصال بالله تعالى خالق الكون، وواهب الحياة الذي هو مصدر الفيض والخير لجميع الكائنات.
وقد رام الإمام السجاد (عليه السلام) بناء مرتكزات عدة واستهدف أغراضاً بعيدة الغور لا يدركها إلا أولو المعرفة والمجاهدة. وحفلت الصحيفة السجادية بمحطات معرفية بدءاً بالخالق جل جلاله ومروراً بالملائكة والإنس. والجن والشيطان، وختاماً بالحشر والمعاد والقيامة والجنة ونعيمها الدائم وفي أدعية الصحيفة السجادية لفتات كثيرة عن طبيعة النفس الإنسانية وسجاياها وتركيبها.
ولهذا يمكن ان يستقي العالم النفسي من هذا الأثر النفيس ويمتلئ علماً من هذا المنبع الثر مما يساعده على فهم مادته ومن المعلوم أن هذه النفس عالم أوسع بكثير ممايسمى بعلم النفس إذ علم النفس شيء والنفس الإنسانية شيء آخر لم يحط بها وأن المتأمل في أدعية الصحيفة يجدها مرآة لهذه للأدب الإنساني الصادق، وهو توصيف دقيق لحالات وهواجس وانفعالات النفس، ومن الخطل ترك تلك النصوص، وبنا حاجة لدراسة تلك النصوص واستنباط دررها، واستدرار عيونها.
حاول هذا البحث الوقوف على الاستراتيجية التداولية التي استعملها الإمام السجاد (عليه السلام) في صحيفته الخالدة، ومعرفة الأصول المعرفية التي بنيت عليه لغة الخطاب السجادي.
التمهيد في مفهوم التداولية: يُراد بالتداولية غالباً دراسة استعمال اللغة في سياق معين وتختص التداولية بدراسة المعنى الذي يقصده المتكلم وأبرز حقل أثر في ظهور التداولية هو حقل الفلسفة التحليلية التي توصف لدى الكثير المنبع الأول الذي انبثقت منه أولى بوار التداولية وتهتم التداولية بدراسة كيفية تفسير الأقوال المستعملة أو اعتمادها على المعرفة بالعالم الواقعي المحيط بالنص.
وتركز على كيفية فهم المتحدثين للأحداث الكلامية، كما أن التداولية لا تنتمي إلى أي من مستويات الدرس اللغوي صوتية كانت أم صرفية أم نحوية أم دلالية وتقوم التداولية على دراسة توظيف المعنى اللغوي في الاستعمال الفعلي من حيث هو صيغة مركبة من السلوك الذي يولد المعنى وتتداخل التداولية مع علوم أخرى كعلم النحو وعلم، الدلالة وعلم الأسلوب، ولسانيات النص والبنيوية.
مرتكزات التداولية
أولاً: الاستلزام الحواري يُعد العالم اللغوي (جرايس) من القامات اللغوية التي أرست مفاهيم الاستلزام الحواري الذي أكد على أن مفهوم التواصل يقوم أساساً على منطلق عام سماه بمبدأ التعاون الحواري وهو منطلق مهم في العملية التواصلية، ويؤدي الإخلال به إلى فشل الفعل اللغوي، ويراد به أنَّ الجماعة اللغوية في إنتاجها للعملية التخاطبية الحوارية يمرون بأحد الطريقين الآتيين:
الأول: قد يقولون ما يقصدون.
الثاني: قد يقصدون أكثر ما يقولون.
فيراد من الاستلزام الحواري تحقيق وظيفة مفادها هو إيضاح الاختلاف بين ما يقال، وما يقصد فما يقال: هو ما تعنيه الكلمات والعبارات بقيمها اللفظية، وما يُقصد: هو ما يريد المتكلم أن يبلغه السامع على نحو غير مباشر؛ اعتماداً على أنَّ السامع قادر على أن يصل إلى مراد المتكلم بما يتاح له من أعراف الاستعمال، ووسائل الاستدلال، والاستلزام - في ضوء هذا التعريف - قسمان : الأول، استلزام عرفي والثاني، حواري الاستلزام العرفي، فقائم على ما تعارف عليه أصحاب اللغة من استلزام بعض الألفاظ دلالات بعينها لا تنفك عنها مهما اختلفت به السياقات وتغيرت التراكيب. وأما الاستلزام الحواري فهو متغير فأما دائماً بتغير السياقات التي يرد فيها.
ويعتمد الاستلزام على أربعة شروط في تحقيق ما يسمى التعاون الحواري وهذه الشروط هي :
1 مبدأ المناسبة : أن يكون كلامك مناسباً للموضوع .
2 مبدأ الطريقة : أن يكون كلامك واضحاً محدداً موجزاً متجنباً للغموض واللبس.
3 مبدأ الكم : أن لا تقول من الكلام ما لا حاجة له.
4 مبدأ الكيف أن لا تقول ما ليس عندك دليل عليه.
ففي نص للإمام السجاد (رض): يقول فيه: ((اللَّهُمَّ وَمَتَى وَقَفْنَا بَيْنَ نَقْصَيْنِ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا فَأَوْقِعِ النَّقْصَ بِأَسْرَعِهِمَا فَنَاءً ، وَاجْعَلِ التَّوْبَةَ فِي أَطْوَلِهِمَا بَقَاءً وَ إِذَا هَمَمْنَا بِهَمَّيْنِ يُرْضِيكَ أَحَدُهُمَا عَنَّا ، وَ يُسْخِطُكَ الْآخَرُ عَلَيْنَا ، فَمِلْ بِنَا إِلَى مَا يُرْضِيكَ عَنَّا ، وَ أَوْهِنْ قُوَّتَنَا عَمَّا يُسْخِطُ كَعَلَيْنَا وَ لَا تُخَلِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ نُفُوسِنَا وَ اخْتِيَارِهَا ، فَإِنَّهَا مُخْتَارَةٌ لِلْبَاطِلِ إِلَّا مَا وَفَقْتَ ، أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا نلحظ في هذا النص حوارية)) .
رَحِمْتَ تقوم على مبدأ المناسبة؛ لأنه قاله في دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الاشْتِيَاقِ إِلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ. وهو ملائم لمبدأ الطريقة، فالكلام جاء سلساً بيناً لا لبس فيه ولا غموض، لا يحتاج إلى أدنى تأمل في فهم مرامي النص، فجاء محدداً وهذا التقرير المنطقي الذي عرضه الإمام السجاد (عليه السلام) في نصه هذا يشير الى استحكام اللغة الإقناعية، ولا سيما حين يشير إلى ذلك بقوله واجعل التوبة (التي هي كناية عن الفعل، فالتوبة - هنا بمعناها المشهور، أي إذا قصرنا في أمر ديني أو دنيوي، وما يستلزم الحوار هنا أن التوبة بمعناها اللغوي، وهو مطلق الرجوع يعني ارجعنا عنه حتى لا نفعله، وقيل المراد بالتوبة لازمها، وهو الرحمة والمغفرة، وقيل فيه معنى آخر وهو أن يكون المراد وقوع النقص في التقصير في الدين لا في التقصير في الدنيا، والمراد بالنقص رفعه بالكلية فإنَّ الناقص يأتي بمعنى الساقط والزائل، وفي إتيانه (ع) بأن يلزم، وفيه إشارة إلى عدم إمكان الجمع بين الدنيا والآخرة، كما ضرب أمير المؤمنين (عليه السلام) مثلهما وأنه لا يمكن أن يرضى إحدهما إلا بإسخاط الأخرى، وبكفتي الميزان فإنَّ أحدهما لا يرتفع إلا بوضع الأخرى، وبالمشرق والمغرب فإنه كلما ازداد قرباً منأحدهما ازداد بعداً من الآخر.
ثانياً: التخاطب يدل التخاطب في اللسانيات على الكلام بين اثنين، وهي دلالة تختلف على المصطلح النقدي الحديث، التي تنطلق من دراسةعلمية للتواصل في اللسانيات، حيث يعني الخطاب كل تلفظ يفترض متحدثاً وسامعاً، مع نية المتحدث التأثير في السامع بشكل من الأشكال، وتدخل فيه خطابات الشفوية والكتابات التي تنقلها، فالخطاب يقع داخل النص بين الراوي والمروي له. في دراسة الخطاب في الصحيفة السجادية، تنطلق من العلاقة بين الداعي (الراوي) والمدعو (المروي له) من خلال:
1 الموقع: حيث يقف في مرتبة أدنى من المدعو، ويوجه خطابه إلى الأعلى، يتقرب به إلى الله تعالى وذلك لأنَّ الدعاء خطاب من الإنسان إلى الله تعالى وذلك لأنَّ الدعاء خطاب من الإنسان إلى الله تعالى بعد أن كان الوحي خطاباً من الله إلى الإنسان.
2 شبكة الضمائر : حيث تتغير الضمائر العائدة إلى كل من الداعي والمدعو، بحسب المواقف، فيتكلم الداعي بصيغة الجمع، يتقمص لسان الجماعة ويستحضر المدعو عن طريق المخاطبة، أو يشار إليه بضمير الغائب، وهو حاضر في كل نص. كما نتناول عناصر أخرى، نشأت منطبيعة الدعاء، وهي المدعو له والمدعو عليه والمدعو به لم تطرقها الدراسات السردية الحديثة, ومن ثُمَّ علينا تجلية مفاهيمها، والعناية بتوصيفها، وتحديد مظاهرها في النص، ولا بد من تقديم ملاحظة مهمة.
وهي أن الدعاء بخلاف السرد القصصي، لا يسرد أحداثها وقعت، وهو إنشاء، ليس فيه أحداث وقعت قبل السرد أحداثه توجد حال التلفظ به وينشئ الحدث ولا يسرده، وبكونه من حيث الزمان في المستقبل والخطاب يجري في فضاء خاص, فما أن يدعو الإنسان حتى ينتقل إلى عالم آخر لا عالم الآخرة ولا عالم الغيب، عالم تخييلي مقدس.
ثانياً: الإشاريات هي عنصر من عناصر التداولية ويقصد بها كل ما يشير إلى ذات، أو موقع، أو زمن ... وهي تترابط مع مفهوم المشير وتأسيساً على ذلك فأن اللغة سواء بصورتها الكلية المهيمنة أو بصورتها الجزئية، فهي تترسخ في منظور جيرو (كنظام إشاري من أنظمة إشارية عديدة تدخل كلها ضمن إطار السيمولوجيا، ويقول بهذا الشأن اللغة نظام إشاري يعبر عن الأفكار...... وبذلك يمكن مقارنته بالنظام الكتابي وبالنظام الألف بائي للصم والبكم وبالنظام الإشاري العسكري وبالنظام الإشاري النقشي).
مقتبس من دراسة بحثية للأستاذ الجامعي م. د. جاسم فريح دايخ من جامعة واسط - العراق
اضافةتعليق
التعليقات