قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [ال عمران : ١٤٠].
في هذه الآية الكريمة تصوير دقيق وعميق لمعنى صرنا نراه هذه الأيام بكثرة، و جواب شاف عن تساؤل يتردد على الألسنة: أليس الله تعالى لا يحب الظالمين، فلمَ لا ينتقم للضعفاء والمستضعفين من الأطفال والنساء وكبار السن الذين سقطوا ضحايا لِتَجَبرِ وتكبر السلطات الظالمة، وصمت أعوانهم وأتباعهم؟
الجواب الأول الذي يمكن أن نستلهمه هو من قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ}، إذ يخبرنا إنها سنة من سنن الله تعالى في الخَلقِ، فما يمر به المستضعفين اليوم من مظلمة قد مر بها اقوام سابقون، ولكن هل أخذنا العبرة مما سبب لهم أن يكونوا موطن ضعف لا قوة، أم مررنا على حقب التاريخ وأحداثها وصراعاتها مرور الكرام؟ فنحن من هذا الباب سبب لما نمر به من ظلم، ولأن {اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} كما ختمت الآية، فنحن بذلك قد ظلمنا أنفسنا فعلينا أن ندفع ثمن ما ارتضيناه لأنفسنا بدءً.
فعندما يعيش الإنسان تحت قيادات الظلم ويتقبل تحكم الطواغيت فيه وفي مقدراته، ولا يثور وينهض ضدها ويرفضها هو بذلك لم ينصر الله تعالى -بهذا المعنى- أما من يرفضه ويُعد العدة والعدد لدفع الظلم والجور فهو بذلك سيكون ناصرًا لله تعالى، وسيرى حتمًا كيف يؤيده تعالى عندئذ بنصر وفتح منه عزيز.
وفي تكملة الآية وجهًا آخر للإجابة وذلك بقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ}، أي -كما يبدوا- أن معرفة هذه الحقيقة - التي ذكرت في الجواب الأول- من قِبَل أهل الإيمان سيجعلهم مستعدين كل الاستعداد لبذل أنفسهم، فهم في دواخلهم عرفوا أن الظلم.. كل الظلم قبيح عند الله تعالى، لا يحبه ولا يرتضيه لأهل الإيمان، لذا هم ممن يقومون في وجهه فاستحقوا بذلك أن يكونوا ممن اتخذهم الله تعالى شهداء.
فهذا تشريف منه سبحانه يُقابل بالاعتزاز والفخر لا العكس، كما بينت الآية التي قبلها بقوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وهذه حقيقة قد رأيناها اليوم كيف أن الفلسطينيين يشكرون الله تعالى على نعمة الشهادة لمن رحل من ذويهم ويتمنى الباقون نوالها.
-بمعنى آخر- الذي يُشاهد الظلم وينهض ضده يغدو شهيدًا، وبدمه يجعل الناس يُشاهدون قبح الظلم الذي كانوا يعيشونه أو يَعيشه غيرهم وهم غير مبالين، فهم لا يرونه لإنشغالهم -وبعبارة أصح لأنه قد تم إشغالهم- بمصالحهم الدنيوية تارة، وغفلتهم وتعلقهم بالحياة الدنيا تارة أخرى.
فَدَمْ من يتخذه تعالى شهيد هو دم اريق ليوقظ الضمائر الانسانية، فكيف إذا كان هذا الدم دم بريئ هو مدني ليس بمقاتل ولا مجاهد! لنا أن نتصور حجم السبات الذي تعيشه البشرية؟ وأي درجة من الضعف الذي تعيشه الأقوام، ضعف برضا، ضعف بتبريرات، ضعف بتهاون وتنصل من المسؤولية؟!
فهذا المستوى من انحدار البشرية نحو قبول الفساد والظلم، بل والكون جزء منه، لابد أن يكون في قباله ما يماثله بل وأعظم في حجم التضحيات وجزء منها اراقة الدماء البريئة التي لولا أنها اريقت لما تغيرت مسارات الحياة من السكوت والصمت والإنشغال في اللهو والتفاهة إلى مسارات التحرك ولو على المستوى الباطني الداخلي في كل إنسان لازال في قلبه ومضة نور وفي ضميره ذرة حياة.
وهذا لا يعني تبرير لحجم ما سفك من الدماء ولكنه نتيجة طبيعية لحجم الأثر الذي يتوجب تحقيقه وصنعه في الواقع الآت، وفي ذلك حجة من الله تعالى علينا ودرس وعبرة للأجيال التي ستأتي، هل سوف تتعلم مما يحصل أم تحتاج أيضًا إلى أن يمسها قرح كهذا أو أشد حتى تستيقظ؟!
اضافةتعليق
التعليقات