يعد الطعام الذي نأكله أحد الأسباب الرئيسية للمرض. ومع زيادة سوء التغذية، تزداد الأمراض المصاحبة لذلك. لكن هل يمكننا استخدام الغذاء لمعالجة المشاكل الصحية في العالم بدلاً من ذلك؟
تعد بردية إبيرس واحدة من أقدم النصوص الطبية في العالم، وهي مؤلفة من 110 صفحات وتضم مجموعة من العلاجات وكُتبت في عام 1500 قبل الميلاد تقريباً. ويحتوي النص، الذي وُجد بين رجلي جسد محنط في مقبرة مصرية، على تعليمات حول النباتات التي يجب تناولها لعلاج أمراض مختلفة، ويعطي 811 وصفة طبية لعلاج مجموعة واسعة من الاضطرابات، بدءاً من الأمراض العقلية وصولا إلى عضات التماسيح.
ثم جاءت لاحقاً "مجموعة أبقراط" التي غالباً ما تُنسب إلى الطبيب اليوناني القديم أبقراط، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه "أبو الطب الغربي الحديث" (على الرغم من أن العلماء اليوم يعتقدون أن المجموعة كتبها العديد من المعالجين الذين تبعوا أبقراط).
وشملت العلاجات الواردة في هذه المجموعة العسل لعلاج الأرق والجروح الملتهبة، والكرز الشتوي لتحسين البصر وعلاج آلام الأسنان، والريحان لتليين الأمعاء وعلاج الالتهابات، والصمغ العربي لتحديد النسل. وبصفة إجمالية، فإن 40 في المئة من العلاجات الواردة في هذه المجموعة تُصنع من 44 نبتة - كان من بينها 34 نبتة تستهلك أيضاً كغذاء.
وعلاوة على ذلك، فإن ذكر استخدام الأطعمة للمساعدة على إطالة العمر، قد ورد أيضاً في الطب الصيني التقليدي وطب البحر الأبيض المتوسط والأيورفيدا والعديد من النصوص القديمة. وحتى يومنا هذا، لا تزال هذه النصوص بمثابة مصدر إلهام للاتجاهات الصحية المعاصرة. وفي بعض أنحاء العالم، يواصل السكان الأصليون والمجتمعات القبلية استخدام مئات النباتات الصالحة للأكل كعلاجات من خلال تضمينها في نظامهم الغذائي.
ومع ذلك، يعتمد غالبية سكان العالم على أنظمة الرعاية الصحية الحديثة التي يلعب فيها الطعام دوراً صغيراً نسبياً في علاج الأمراض أو الوقاية منها. وبدلاً من ذلك، جرى تشويه سمعة الطعام إلى حد كبير وتصويره على أنه سبب أساسي لأمراض القلب والأوعية الدموية من خلال الاستهلاك المفرط وسوء التغذية.
لكن هناك الآن إجماع على أن النظام الغذائي الصحي قد لا يكون فقط وسيلة لدرء هذه المشاكل الصحية، لكنه قادر أيضاً على علاج الأمراض.
فكيف يمكننا تحسين النظم الغذائية للناس في جميع أنحاء العالم للوقاية من الأمراض؟ وهل يمكن استخدام الطعام مرة أخرى كدواء؟
إن الأدوية التي قد تجدها في المنزل هي في الحقيقة مستوحاة من العديد من النباتات الصالحة للأكل. كما أن قدرة هذه النباتات على تخليق مركبات مفيدة لنا تجعلها تعمل كمواد كيميائية مساعدة مفيدة.
تقول ميلاني جين هاوز، رائدة أبحاث في الكيمياء النباتية وعلم العقاقير (دراسة العقاقير من أصل طبيعي) في حدائق كيو للنباتات الملكية في المملكة المتحدة: "يمكن وصف النباتات في واقع الأمر بأنها تشبه الكيميائيين البارعين الذين قاموا بالفعل بالكثير من العمل من أجل البشر".
وتضيف: "بدلاً من الاضطرار إلى البدء من الصفر لتصنيع دواء جديد، وهو الأمر الذي قد يتطلب الكثير من الوقت والجهد والكثير من الموارد الكيميائية، يمكن أن يكون من الأفضل استخدام مادة كيميائية نباتية كمادة أولية لتصميم وتطوير الدواء، وهو ما يؤدي إلى تقليل الخطوات المستخدمة في إنتاج هذا الدواء".
وقد تكون الاكتشافات الأولى لبعض المواد الكيميائية في النباتات الصالحة للأكل والتي كانت السبب وراء تطوير عقاقير جديدة قد حدثت بشكل عرضي أو عن طريق الصدفة في بعض الحالات، أو بناءً على كيفية استخدام هذه النباتات بشكل تقليدي، لكن حدوث ذلك في المحاصيل الصالحة للأكل على نطاق واسع يمكن أن يساعد العلماء في الحصول على هذه المواد الكيميائية بسهولة أكبر.
يقول داريوش مظفريان، عميد كلية فريدمان لعلوم وسياسات التغذية بجامعة تافتس في ماساتشوستس بالولايات المتحدة: "أود أن أُعرّف 'الغذاء كدواء' على أنه دمج الغذاء والتغذية في نظام الرعاية الصحية. يقول العلم بوضوح شديد إنه يمكن القيام بذلك لكل من علاج الأمراض والوقاية منها. يعتبر الغذاء والتغذية السبب الرئيسي لسوء الصحة في كل بلد تقريبًا في العالم. ومع ذلك، فإن أنظمة الرعاية الصحية ومناقشات الرعاية الصحية وطرق تمويل الرعاية الصحية تتجاهل هذا إلى حد كبير".
لكن العلماء يكتشفون أيضاً طرقاً لاستخدام الطعام لتغيير مسار المرض، من خلال تقديم وجبات مصممة طبياً للمرضى المصابين بأمراض مزمنة، أو وصف منتجات معينة لأولئك الذين يعانون من حالات حساسة لبعض النظم الغذائية، مثل مرضى السكري أو السمنة أو ارتفاع ضغط الدم.
لقد ثبت أن تقديم وجبات تتوافق مع الاحتياجات الغذائية لمرضى السرطان وفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) والسكري، على سبيل المثال، أدى إلى خفض حالات الدخول اللاحقة إلى المستشفى إلى النصف تقريباً لأولئك الذين يتلقون نظاماً غذائياً مخصصاً لهم، كما أدى إلى تقليل تكاليف الرعاية الصحية الإجمالية بنسبة تصل إلى 16 في المئة.
ويُجري الباحثون في الولايات المتحدة أيضاً تجارب تُوصف خلالها أطعمة طازجة مختارة بعناية لمرضى السكري من النوع الثاني والأمهات ذوات الدخل المنخفض - وهو نهج أصبح يُعرف باسم "المزرعة" - للمساعدة في تحسين صحتهم. وتضم العديد من المستشفيات أخصائيي تغذية متخصصين من بين الموظفين للمساعدة في تحسين تعافي المرضى من خلال تغذية أفضل.
لكن مفهوم استخدام الطعام كدواء يمكن أن يكون له تأثير أوسع بكثير على صحة الإنسان أيضاً.
وتشير التقديرات إلى أن 10 أطعمة فقط تلعب دوراً في ما يقرب من نصف الوفيات في الولايات المتحدة بسبب أمراض القلب والسكتة الدماغية ومرض السكري من النوع الثاني كل عام. وتحدث هذه الوفيات بسبب تناول الأشخاص كميات قليلة جداً من المكسرات، والبذور، والمأكولات البحرية الغنية بأوميغا 3، والخضروات، والفواكه، والحبوب، أو تناول الكثير من الصوديوم واللحوم المصنعة والمشروبات السكرية.
تاريخياً، ركزت نصائح الرعاية الصحية في معظم الدول المتقدمة على الأطعمة "السيئة" والحد من استهلاك المكونات التي قد تكون ضارة مثل السكر والملح. لكن هناك وعي متزايد بأنه حتى في البلدان الغنية، لا يحصل عدد كبير من السكان على الأطعمة التي تحتوي على العناصر الغذائية التي يحتاجونها للبقاء في صحة جيدة.
ولم يكن العالم بالفعل على المسار الصحيح لتحقيق الهدف الذي حددته منظمة الصحة العالمية والمتمثل في إنهاء الجوع العالمي بحلول عام 2030، لكن وباء كورونا تسبب في تراجع هذا الهدف إلى أبعد من ذلك.
ويمثل سوء التغذية - الذي يغطي جميع أشكال الغذاء غير الكافي، بما في ذلك نقص العناصر الغذائية الأساسية من نظامك الغذائي والسمنة - مشكلة تؤثر على الناس في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في البلدان المتقدمة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
وتقول منظمة الصحة العالمية إن نحو ملياري شخص يعانون من سوء التغذية، وتشير إلى أن 928 مليون شخص - 12 في المئة من سكان العالم - كانوا يعانون من نقص شديد في الأمن الغذائي في عام 2020. وهذا الرقم أعلى بمقدار 148 مليونًا عن عام 2019.
تقول هيلاري سيليغمان من جامعة كاليفورنيا سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة: "يرتبط انعدام الأمن الغذائي ارتباطًا مباشرًا بالحالات الطبية المزمنة. والسبب في ذلك هو أن الأشخاص الذين يعيشون في أُسر تعاني من انعدام الأمن الغذائي قد يكونوا غير قادرين على تناول بعض الأغذية الضرورية، نظرا لأن الأطعمة الصحية تتكلف أكثر. كما أن الضغوط الناجمة عن انعدام الأمن الغذائي والوجبات الغذائية الأقل صحة تؤدي إلى حدوث التهابات في الجسم. وعندما تركز الأسرة على الحصول على الأطعمة، فإن السلوكيات الأخرى المعززة للصحة مثل النشاط البدني وإعادة شراء الأدوية من غير المرجح أن تكون من ضمن أولويات الأسرة".
كما يضع انعدام الأمن الغذائي ضغطاً هائلاً على أنظمة الرعاية الصحية. وفي الولايات المتحدة، تُقدر تكاليف نظام الرعاية الصحية لأمراض القلب والأوعية الدموية بـ 316 مليار دولار كل عام، و327 مليار دولار سنوياً لمرض السكري.
يقول مظفريان: "لو فكرت في مقدار الأموال التي تنفقها كل دولة على الرعاية الصحية في الوقت الذي تتجاهل فيه الغذاء في هذه الاستثمارات، فإنك ستكتشف الكثير عما نعانيه اليوم من الأوبئة العالمية للسمنة ومقدمات السكري والسكري".
ويضيف: "لا توجد طريقة تمكننا من التخلص من ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم ما لم نُحسن الغذاء أولاً".
ويعتقد المدافعون عن استخدام الغذاء كدواء أنه من خلال زيادة الوصول إلى الأكل الصحي وتوافره ومعرفة المزيد عنه، يمكن القضاء على بعض الأمراض المزمنة أو إبطائها، مع تقليل تكاليف الرعاية فبشكل كبير في جميع أنحاء العالم.
لكن هناك بعض التحديات في هذا الأمر. تقول سيليغمان إن البرامج الحالية في الولايات المتحدة تركز على مجموعات صغيرة نسبيًا ومريضة بالفعل، وهي مصممة لتستمر لمدة أسبوعين أو شهرين فقط.
وفي الولايات المتحدة، قد يتلقى الشخص الذي يدخل المستشفى مصابًا بقصور في القلب وجبات مصممة طبياً لحالته لمدة ستة أسابيع، أو قد يتلقى الطفل المسجل في عيادة التحكم في الوزن وجبات من الفواكه والخضروات تستمر لمدة ثلاثة أشهر. ومع ذلك، قد تستغرق فوائد التدخل الغذائي سنوات أو عقودًا لتحقيقها، وهو ما يعني أن المريض يجب أن يستمر في تغيير نمط حياته دون دعم طبي.
تقول سيليغمان: "إذا تمكنا من تقديم الدعم لطفل عن طريق تناول نظام غذائي صحي طوال فترة طفولته، فسنحقق فوائد هائلة على المدى الطويل من المحتمل أن تكون فعالة من حيث التكلفة. لكن ذلك لن يحدث بسرعة. على سبيل المثال، قد نتفادى الإصابة بمرض السكري بعد 30 عامًا، أو نؤخر ظهور السمنة لعقد من الزمن".
لقد جلب الوباء اهتماماً متجدداً بتناول طعام أكثر صحة، لكن الحصول على أطعمة مغذية ذات نوعية جيدة ليس بالأمر السهل للجميع، حتى في البلدان المتقدمة. فغالباً ما تكون الأطعمة الصحية باهظة الثمن، وهو ما يعني أن الأشخاص الذين لديهم الوسائل والامتيازات لتحمل التفضيلات الغذائية المتنوعة هم فقط من يمكنهم الوصول إليها.
وبالتالي، يكمن التحدي في مساعدة الأشخاص الأقل ثراءً على الوصول إلى الأطعمة المغذية أيضًا. كما يحاول بعض المبتكرين زيادة العناصر الغذائية في المحاصيل الأساسية حول العالم.
وفي أفريقيا، تفتقر العديد من الحبوب والخضروات الجذرية، التي تشكل المواد الغذائية الأساسية، إلى المغذيات الدقيقة الحيوية. وتكون النتيجة هي مشكلة تسمى "الجوع الخفي"، فما يمكن أن يبدو أنه وفرة في الغذاء لكنه يفتقر في الواقع إلى الفيتامينات والمعادن الضرورية.
ويعاني ما يصل إلى نحو 19 في المئة من سكان أفريقيا حاليا من سوء التغذية. وفي شرق إفريقيا، على سبيل المثال، تعاني 35 في المئة من النساء في سن الإنجاب من فقر الدم - تتراوح النسبة من 19 في المئة في رواندا إلى 54 في المئة في موزمبيق - ويكون نقص الحديد الغذائي هو السبب الرئيسي في ذلك. وعلاوة على ذلك، يكون نقص الحديد بين الأطفال أسوأ. حسب بي بي سي
اضافةتعليق
التعليقات