إنّ شاعرية العلامة اقبال أشهر من أنْ تُعرف، وأعظم منْ أنْ تُقوّم على حد تعبير بعضهم فهو شاعر بالفطرة والتجربة والمعرفة والثقافة له ملكة ندر وجود مثيلها على مدى القرون، لقد حفِظ إقبال القرآن الكريم وهو حدث السن وفهمه فهماً جيداً وغاص إلى أغواره فوقف على بعض أسراره ومعانيه العظيمة، ثم قرأ الشعر الفارسي والهندي والعربي، وهضمه هضماً جيداً، وأتبعها بقراءته للشعر الأوروبي ولكن بعد أن امتد به العمر، إن الثقافة الشعرية التي استطاع توفيرها لنفسه مكّنَته منْ أنْ يمتلك ناصية البيان ويُطوع جموع المعاني وأنْ ينطلق في عالم الشعر انطلاقةً لا مثيل لها، ليس في الهند فحسب، بل في الشرق والأمة الإسلامية جمعاء في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن الماضي، وقد بوأته قراءاته الكثيرة في كتب الأدب المختلفة مكانة في اللغة لا يرقى إليها الطير ومنحته من الأساليب ما تعجز عنه البلاغة نفسها، وألهمته من الخيالات والصور الشعرية ما تحسده عليه الطبيعة وجمالها الأخاذ، والشيء الأكثر إدهاشًا أنَّ أقبالاً استطاع أن يمزج ويُزاوج بين الشعر والفلسفة دون أنْ يخل بمفهوم الشعر وقوانينه بل زاده جمالاً على جمال، كما هيأ الفرصة للفلسفة أن تظهر للناس بحلة خلابة من نسيج فريد.
بدأ إقبال بكتابة الشعر وهو في مراحل الدراسة الأولى، وقد شجعه أستاذه (مير حسن شمس العلماء)، الرجل الضليع في الأدب والهندية والعربية، على مواصلة تنمية مواهبه في مضاميرها، وذلك لما توسم فيه من النبوغ الخارق الذي كانت تبدو طلائعه في أعماله الشعرية الأولى والتي كان إقبال يُطلعه عليها ويستشيره في مستواها، كما وشجعه الشاعر الهندي الكبير (داغ) تشجيعاً كان له أثر على تطوره الشعري، وحينما أرسل إليه بعض قصائده الشاعر (داغ) لم يصحح له الأخطاء التي ليست بذي بال، وأرسل إليه قصائده مرفقة برسالة يقول له فيها "إنك لستَ بحاجة إلى أن يُصحح لك أحدهم قصائدك إذ قد بلغت قدراً كبيراً من النجاح وسلامة النظم".
سيرته الذاتية ..
وُلد الشاعر والفيلسوف الباکستاني "محمد إقبال" بن محمد نور بن محمد رفيق، في 9 نوفمبر 1877م (3 ذي القعدة 1284هـ)، بمدينة سيالكوت، بمقاطعة البنجاب، بالهند، بحسب ما أكّده ابنه “جاويد”. وسُمي هذا الیوم بإسمه تكریماً له وإحیاءً لما قدمه للمسلمین من خلال کتاباته وأشعاره، ينتهي نسبه إلى براهمة كشمير الهندوس، وقد أسلم أحد أجداده في عهد السلطان زين العابدين إلياس بادشاه، على يد الشيخ شاه همداني، أحد مشايخ الصوفية في عهد الدولة المغولية.
نشأ مع والدَين صالحين تقيّيَن، وتعلّم على يد أبيه في طفولته، ثم ألحقه بكُتّاب ليحفظ القرآن، وعَهِد به إلى أستاذه (مير حسن) الذي أدّبه وعلّمه الدين والعربية والفارسية، وأدخله مدرسة دينية، ثم ألحقه بمدرسة الإرسالية الإسكاشيّة الإنجليزية، وتخرّج من كليّتها (1895م)، ثم حصل على شهادة (.B.A) من الكلية الحكومية في لاهور (1897م)، وفي (1901م) نشر أول قصيدة له بمجلة «مخزن» بالفارسية، وفي (1902م) حصل على شهادة (.M.A) في الفلسفة بامتياز، وعُيّنَ أستاذاً للفلسفة والتاريخ بالكلية الشرقية في لاهور.
سافر إلى بريطانيا والتحق بكلية التثليث بجامعة كامبريدج، كطالب أبحاث (1905م)، ثم حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ميونخ الألمانية (1908م)، وعاد إلى الهند واشتغل بالمحاماة.
في عام (1919م) أنتُخب عميدًا لكلية الدراسات الشرقية بلاهور، وبعدها بأربعة أعوام حاول حاكم بنجاب الإنجليزي استمالته بمنحه لقب سير (1923م)، ولم تُفلح المحاولة ولكن بقي معه اللقب.
وفي عام (1927م) أنتُخب «إقبال» عضوًا برلمانيًا عن إقليم البنجاب، ثم أنتُخب رئيسًا للاجتماع السنوي لحزب الرابطة الإسلامية في "إله أباد" (1930م). بعدها بعام (1930م)، اشترك في مؤتمر الطاولة المستديرة في لندن، وزار القدس ضمن ضيوف المؤتمر الإسلامي المنعقد هناك، وزار إسبانيا وألقى بها محاضرات في الفن الإسلامي، وزار إيطاليا والتقاه «موسوليني». وفي (1933م) زار أفغانستان بدعوة من السلطان نادر خان ملك أفغانستان.
بعدها بعام (1934م) وبسبب ظروف مرضه اضطر للانقطاع عن عمله في المحاماة، ومع ذلك تمّ انتخابه رئيسًا لفرع الرابطة الإسلامية في بنجاب (1935م). وفي عام (1937م) منحته جامعة «إله أباد» الدكتوراه الفخرية في الآداب، وحصل على الدكتوراه أيضًا من الجامعة العثمانية بحيدر أباد، قبل أنْ يُلبّي نداء ربّه في العام التالي (21 أبريل 1938م)، ويُدفن في جانب فناء المسجد الجامع «شاهي مسجد»، في لاهور.
وقدْ صرّح إقبال بهذا مبكرًا في كتابه «تجديد الفكر الديني في الإسلام» بقوله: "إنني أحاول بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناءً جديدًا، آخذًا بعين الاعتبار: المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإسلامية من تطوّر في نواحيها المختلفة، واللحظة الراهنة مناسبة كل المناسبة لعملٍ كهذا". وقد أجرى إقبال خطوات منهجه ذاك على النحو التالي:
- أعاد تناولها بأسلوب علمي معاصر، يقوم على تحليلها تحليلًا نقديًا صارمًا، واستبعد ما بها من عناصر ضعيفة أو متهافتة، مع التركيز على على ما فيها من عناصر القوة والحيوية.
- قارنها بما توصّل إليه الفكر الأوربي الحديث من نتائج؛ حتى تظهر قيمتها الإنسانية والعالَمية.
يرى إقبال أن الفن هو "البحث عن الجمال" (ديوان ضرب كليم "عصا موسى")، والفنون خادمة للحياة والشخصية، تقوم بقوّة النفس التي أنشأتها، وقوّة إيحائها، وقوة تأثيرها في الطبيعة والإنسان، و"الفن الجميل الوحيد هو الفن الذي يسمو بالروح، ويُلهم الشجاعة، ويُوحي بالأمل، ويُعلّم العيش في شرف".
(ديوان رسالة المشرق) ومقصد الفن هو "تقوية النفس والتعبير عن نفس قوية لا تحاكي الطبيعة ولا تقلّد غيرها، ولكنها تصوغ الفن من دمها ونبضها وتؤثر به في الحياة".
يُفاجئنا إقبال، بأنّه باستثناء فنّ العمارة الإسلامية، فلم يُولَد بعدُ ما يصحّ أن يعتبره فنًا إسلاميًا يتخلّق فيه الإنسان بأخلاق الله، ويتجلّى فيه العشق توحيدًا بين الجمال والقوّة، ويعِدُ الإنسانَ بإلهامٍ لا ينقطع "أجرٌ غير ممنون"، ثم يحقّق له خلافة الله في الأرض.
وبالنسبة لكثيرين، تستحق مؤلّفات إقبال ذلك، وأكثر. ومما تركه إقبال من المؤلّفات النثرية:
1- علم الاقتصاد، طبعته الأولى بدون تاريخ، وطبعته الثانية في كراتشي عام 1961م، وطبعته أكاديمية إقبال بلاهور طبعة ثالثة عام 1977م.
2- تطوّر ما وراء الطبيعة في إيران: رسالته للدكتوراه، نشرت بالإنجليزية في لندن عام 1908م، ومترجمة للعربية عن مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة عام 1986م.
3- تجديد التفكير الديني في الإسلام: طُبع بالإنجليزية عام 1930م، وأعادت جامعة أكسفورد طباعته عام 1934م، ونشرته مترجمًا لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة عام 1955م.
4- الأفكار المختلفة: نُشِر بعد وفاة إقبال، عام 1961م.
وممّا تركه من الدواوين الشعرية:
1- أسرار خودي "أسرار الذاتية"، 1915م. (بالفارسية)
2- رموز بي خودي "رموز نفي الذاتية"، 1918م. (بالفارسية)
3- پيام مشرق "رسالة المشرق"، 1923م. (بالفارسية)
وغيرها الذي يقرأ أشعار إقبال يجد فيها علماً عميقاً بأساليب القرآن الكريم، وألفاظ الفقه، ومصطلحات الصوفية ورموزهم ومعانيهم، حيث ذلك كله في قلم يمده فكر العالم المسلم وقلب العبقري الإنساني الذي يميز اللب من القشر، والنافع من الجفاء ويستشرف آفاق المستقبل وينفذ إلى أغوار السريرة الإنسانية.
إن الألفاظ القرآنية والمصطلحات الدينية والصوفية تتوارد في أشعار كما يتوارد النغم الأساسي في قطعة نثرية تشد القلب لنثريتها، وتُنبه الغافل وتَهدي الحائر، وتُحفز على العمل، وتدفع إلى الجد، وتُحلق في المعالي. ولا يسير لقارئ أشعاره التي هي كالأناشيد وذلك على حد تعبير الدكتور عبد الكريم اليافي أن يتفهمها ويدرك مغازيها ومراميها إلا بإدراك تلك الإشارات وتأويل تلك الرموز.
ولقد بلغ إقبال الغاية في الإجادة الشعرية مع الأصالة في التعبير والمهارة في الإيحاء والبراعة في النظم، فهو شاعر العشق وشاعر الذات وشاعر الشرق وشاعر الإسلام، فعظمة إقبال تكمن في شعره العبقري المُلهم الحافل بالصور والتلميحات والإشارات، وقد امتاز من بين شعراء عصره بأنّه قد أخضعَ شاعريته القوية، ولا توجد لإقبال منظومات أو أبيات تغزل فيها على الكيفية التي تُشاهد عند الغالبية العظمى من الشعراء، تلك الصورة التي لا تسمو بإنسانية المرأة بل سخرَ منظوماته وأقواله وكتاباته النثرية في بعث المرأة ونهضتها من جديد .
وعند انفجار البركان الأوروبي سنة 1914م، انقلب الشاعر داعياً مجاهداً وحكيماً يتكهن بالأخبار ويقول الحقائق ويَنظم الحكم، ويشب من حماسته نيراناً ويُفجَر إيماناً وثقته أنهاراً، جاش صدره وفاض خاطره وسالت قريحته، فنظم آنذاك غُر قصائده، والتي منها خضر الطريق، الشاعر والتجول في الصحراء، والحياة ، والحكومة، وعالم الإسلام.
اشتهر الشاعر في هذه الأبيات:
نسب المسيح بنى لمريم سيرةً بقيت على طول المدى ذكراها
والنجمُ يُشرق من ثلاث مطالع في مهدِ فاطمة فما أعلاها
هي بنت مَن، هي زوج مَن، هي اُمّ مَن ؟ مَن ذا يُداني في الفخار أباها
هي ومضة من نور عين المصطفى هادي الشعوب إذا تروم هداها
هي رحمة للعالمين وكعبة الآمال في الدنيا وفي أُخراها
مَن أيقظ الفطر النيام بروحه وكأنّه بعد البلى أحياها
وأعاد تاريخ الحياة جديدة مثل العرائس في جديد حلاها
ولزوج فاطمة بسورة هل أتى تاجٌ يفوق الشمس عند ضحاها
اضافةتعليق
التعليقات