التجارب والدروس المنظورة والبعيدة هي عين الانسان للتعامل مع واقعه الحياتي المتنوع، فهي التي تقدم له مكامن الخطر والامان ومكامن القوة والضعف ومكامن السلب والإيجاب عموماً، وعند ذاك سيصل إلى غاياته بأقصر الطرق وأيسرها أيضاً إستناداً إلى المعرفة التي اختزنتها العين الكاشفة من تجارب الغابرين والحاضرين معاً.
ولعل الاخلاص مفهوم متداول بين الجميع ومفردة تتردد على ألسنة الناس مراراً وتكراراً، لدرجة أن الكثير منهم يرى بأن الاخلاص هو النافذة التي يطل منها الانسان على مساحة واسعة من النجاحات الدنيوية والاخروية في آن واحد، ففي العمل الدنيوي ينبغي أن تتوفر مفردة الاخلاص شكلاً وجوهراً كي يتحقق ما يتوخاه الانسان فردا وجماعات، وكذلك لابد أن يتوفر الاخلاص لضمان نجاح العمل الأخروي.
وبهذه السمة الشمولية لحضور الاخلاص في جميع شؤون الانسان، المادية والمعنوية، وفاعلية هذا المفهوم في تحفيز الطاقات البشرية على الوصول إلى مبتغياتها المرسومة سلفاً، فإن الاستغناء عن الاخلاص يبدو ضرباً من الاصرار على التراجع والنكوص الى درجات أدنى، لذا يستحسن أن نعي أهمية هذه المفردة ليست كلفظ، بل كمعنى ومبنى وفعل لما لها من ادوار كبيرة ومباشرة على تطور الفرد والجماعة معاً.
على أننا يجب أن نفهم جوهر الاخلاص ونعيشه واقعاً، فحين تتوصل إلى مرحلة الاخلاص قولاً وفعلاً ذلك يعني بأنك حققت الكثير الكثير، لأن ثمة من يدّعي الاخلاص زوراً، ولا يعنيه من هذه المفردة أو المفهوم سوى حروفها والتبجح الفارغ بها أو قولها وعدم الأخذ بجوهرها في أنشطته الانسانية كافة، بيد أن افعاله ستكشف لنا بواطنه المزيفة، وفي هذا المجال يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي في كتابه القيم الموسوم بـ (العلم النافع):
(الإخلاص مرتبة صعبة البلوغ، وبالنسبة إلى أهل العلم أصعب؛ لمعرفتهم – بعض الشيء – أن يكيّفوا أعمالهم بنحو بحيث يتصور من يلاحظهم أنهم مخلصون حقاً. حتى إذا شعر من يصاحبهم بعد فترة أنهم كانوا يتصنعون الإخلاص ولم يكونوا مخلصين حقاً، سيرى في نفسه الشك في المخلصين من أهل العلم كلهم، مخاطباً نفسه: إن هذا الذي عاشرته كل هذه المدة – متصوراً أنه مخلص – تبين لي زيفه، فلا بدّ أن يكون الآخرون كذلك).
ومع أن الأمر لا يتعلق بأهل العلم وحدهم سواء كانوا مصلحين أو مثقفين أو علماء أو غيرهم، لكنهم النموذج الذي يتشبه به الآخرون، بمعنى أن الانسان على تنوع سماته الفكرية والدينية والعملية، ملزم بالاخلاص في أعماله وأقواله وأفكاره كونه الصورة المثلى للآخرين، فإذا تبين زيفها أو حدثت شكوك في هذا الجانب، فإن هذا يعني فشل النموذج وتراجعه وانكشاف أمره وبالتالي سينسحب التراجع على من يتشبه به وهكذا تكون العواقب كبيرة ومتصاعدة لدرجة أن الفرد أو الجماعة سيعزفون عن الاخلاص في أعمالهم بسبب فشل النموذج في تطبيق الاخلاص شكلاً وجوهراً.
وتبقى أهمية العمل تكمن في نوايا الانسان الحقيقية التي تقف وراءه، بمعنى من الأفضل للانسان أن يعمل ما يؤمن به (لله تعالى) أولاً وليس تحت الرغبة أو الإرضاء وما شابه، ولا يستسلم لضغوط الآخرين أو رغباتهم خلافاً لما يتطلبه الإخلاص، حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد:
(لو لم تكن تفكر في القيام بعمل ما ولكن شجعك الآخرون ورأيت بأنه توجد رغبة عند الناس في هذا الأمر، فقمت به من أجل رغبة الناس وليس لأن الله أمرك به أو أحبه، فهذا أيضاً يعني غياب الإخلاص).
ولعل الخطورة الأشد تكمن في شريحة الشباب أكثر من غيرهم، مع أنهم أكثر قدرة على تحصين أنفسهم ضد اغراءات الشيطان ومسوغاته في إبعادهم عن الاخلاص حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد:
(الشباب أقدر على أن يسحقوا جبين الشيطان ويرغموا أنفه، فليبادروا قبل أن يتمكن الشيطان منهم؛ فإن الخلاص من ربقته في المستقبل أصعب. والشيطان يعرف ذلك، ويعرف أن الإنسان إذا بلغ الأربعين ضعفت قواه وإرادته على محاربة الشيطان إلا من رحم الله).
لذا ليس مستحيلاً ولا صعباً أن يبدأ الانسان تدريب نفسه على الايمان بالاخلاص كسلوك ملزم له ومؤمن به، ولعل جل الأمر يتعلق بذات الفرد ونفسه، بمعنى أن الرصد والتقويم ينبغي أن يبدأ من نفس الإنسان أولاً، حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه الثمين نفسه:
(فلنبدأ من الآن في مراجعة أنفسنا كل يوم، كل في مجال عمله، ولنزنها قبل أن يصعب الأمر علينا أكثر، وقبل أن تصيبنا الغشاوة التي تكون مانعاً من نفاد نور اليقين والعلم إلى أعماقنا، لكي نتمكن أن نميز أصلاً ما هو الشيطان، وما هو الإخلاص!).
وهكذا يبدو لنا جلياً دور الاخلاص في تقويم الفرد والمجتمع معا وتطويرهما والانتقال بهما إلى فضاءات العمل الخلاق الذي يستند في تطوره ونجاحاته إلى الاخلاص شكلاً وجوهراً وتطبيقه على المنهج النظري والعملي لأنشطة الانسان كافة.
اضافةتعليق
التعليقات