قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ}(يوسف: 7)، الآية هي العلامة الدالة لمن يُريد أن يزداد معرفة، يأخذ عِبرة، يُصحح فكره، وفي هذه السورة هناك آيات للسائلين وليس آية، ومن هذه المسائل هي: ما هي المقدمات التي قد توصل الإنسان أن يكيد لأخيه بل ويفكر بقتله؟ ولماذا قد يصل الإنسان إلى هذه المرحلة الخطيرة؟!
قال تعالى: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}(يوسف :8)، إذ نجد مفاتيح ثلاثة في هذه الآية تعطينا فهماً وجواباً نستشفه من خلال منطقهم وهي:
المفتاح الأول: النظرة الدونية للذات
كما في قولهم: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا}، فنفوسهم كانت ليست سليمة بما يكفي، كانت تعاني بما يعرف[بعقدة النقص]، فالحرص على البروز، والحسد النابع من الشعور بالنقص، والحقد الموصل للتفكير بإهلاك الآخر هي من أخطر النوافذ التي إن فتحت في النفس تَمكن الشيطان من الإستحواذ على قلب صاحبها، فيُزين له عَمل كل ما لا يُحمد عقباه، كما بَين نبي الله يوسف(عليه السلام)، بقوله: {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}(يوسف: 100).
ولهذا نبه النبي يعقوب ابنه يوسف (عليهما السلام) من أن يقصص رؤياه لأخوته، كما في قوله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (يوسف: 5)، لأنه كان يَنظر بعين البصيرة ويرى حقيقة نفوس أبنائه.
فليست كل النفوس لديها هذه السعة في تقبل أن يكون للغير ميزة، وجاهة، كرامة ليست فيه؛ وليس كل النفوس وصلت لمرحلة الوعي الذاتي، التي بها تكون قد عرفت خالقها الذي خلق كل بني الإنسان في أحسن تقويم.
فكما [إن من ينشغل بمعايب الناس، ينشغل عن معايبه]، يمكن أن نقول: إن من ينشغل بالنظر إلى محاسن الناس فقط وفقط، سينشغل عن النظر لما عنده من محاسن!!، فيرى أنه لا يُميزه شيء، فيعمى القلب بمرض الحسد والحقد والحرص تجاه الغير فيتمنى زواله وزوال ما فيه.
والمشكلة بالأصل إنه عندما يفكر بهذه الطريقة هو يتصور-موهوماً- أن ذلك يُكسبه التميز، بينما هو في الحقيقة لم يُقدم شيء لنفسه بل أساء التصرف وبقي في مكانه كما في قولهم: {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}(يوسف: 9)، فهم يعترفون بأن عملهم لا صلاح فيه!.
المفتاح الثاني: مقاييس التفاضل المغلوطة (المقارنات الخاطئة)
كما في قوله تعالى: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}، إذ إن النفس التي لا تملك ميزان سليم في تقييم الأمور، تضطرب وتختل نظرة صاحبها تجاه نفسه، وتجاه من حوله، فمقياس الكثرة الذي نظر به اخوة يوسف(ع) مقياس مغلوط، وليس مقياساً للتفاضل بين الأبناء في نظر أبيهم، لذا بَيّن النبي يوسف(ع) ما هو المقياس في قوله تعالى: {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}(يوسف:90).
ولهذا نرى أنهم اعترفوا بعد أن فهموا حقيقة أن العطاء الإلهي والميزات التي تعطى لأحد دون آخر إنما هي عن إستحقاق وقابليات وليست عطاءات عبثية -حاشاه سبحانه- كما في قولهم: {قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}(يوسف: 91).
المفتاح الثالث: عدم احترام الأب والتأدب في حضرته
نجد أنهم في ختام الآية قالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، فهم كانوا لا يراعون حرمة يعقوب(ع) كنبي فضلاً عن كونه أباهم؟! وعدم التأدب وإظهار الإحترام للأب، والتسليم والطاعة لكل فعل يصدر منه كنبي واجب الطاعة؛ موجب لسلب التوفيق، وتمزيق العصم التي تحفظ الإنسان من الإنحراف، والتعثر في حبال النفس الأمارة بالسوء والشيطان.
فهم -كما تبين الآية- وصفوه بالضلال المبين، وليس الضلال فقط! وكذلك إتهموه بعدم العلم والدراية، والتحيز في المحبة، قال تعالى: {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}(يوسف :85)، وقولهم: {قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ}(يوسف :95)، كما ونجد أن الله تعالى دفع عن نبيه أقاويلهم هذه، في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(يوسف:68).
بالنتيجة هذه الآية توصل لنا مفاتيح ثلاثة تربوية ليعيش الإنسان حياة سعيدة في أسرته، ومع أخوته، وذلك بالتركيز على ما عنده من نِعم والإشتغال بها وعليها، والسعي لمعرفة مقاييس التفاضل الحقيقية والسعي لتحقيقها في نفوسه، طاعة وبر الوالدين فهي مفتاح كل توفيق، وعصمة من كل خذلان.
اضافةتعليق
التعليقات