مع بزوغِ شمسِ النهار، تتفتحُ أزهارُ الأوركيدا، لتُحلّقَ بأحلامِها فوقَ أهدابِ الغيوم، بعضُ هاتيك الأحلام تبلغُ السماواتِ العُلى، ومنها ما تُحطِّمُه قساوةُ القضاءِ والقدر!.
هذا أُصيبَ بالشلل في ريعان شبابِه، وهذه فقدت بصَرها ولمّا تعتَلِ مِنصّةَ العشرينِ بعد، ذاك داهمَهُ السرطان، وتلك قتلَ العُقمُ أملَها، وأسمعُ الأشجارَ من حولهم تنعى: "حرامٌ" ما أصابَه! مازال صغيراً على جعجعةِ الابتلاء، "مسكينة" ماذا جنَت لتستحق هذا كلَّه؟! رغم ذلك، تَرمي بأوراقِها إلى عناء السماء لتقول في كَدَر: "الحمدُ لله الذي لا يُحمد على مكروهٍ سواه"!!
بعد ماذا أيها المجتمعُ العليل! أوَ بعدَ أن اتَّهمتَ الله في سرِّك؟! على مَن تُحرِّمُ.. على الإنسان أن يُبتلى؟ أم على الخالِقِ أن يَبتلي؟!
أكرمُ مِن أن يَظلِم
هو المنزَّه - جلّ وعلا- عن قبيحِ الظُّلم، هو العادِلُ الذي يُعطي كلَّ حبَّةِ ما تستحقُّها بل ويتفضَّل ويتلطَّفُ برحمتِه، لِمَ عساهُ يَظلِمُك يابنَ آدم؟ وليسَ بالمجبور ولا بالعاجز! أيَجهلُ الظلمَ وشناعَتَه؟ حاشاهُ حاشاه جلَّ عُلاه. لا هو مفتقِرٌ إلى إيذائك ولا محتاجٌ إلى كسرِ قلبِك وإبكائِك، يقول إمامنا زين العابدين عليه السلام: (وقد علمتُ يا إلهي أنْ ليس في حُكمك ظلم ولا في نقمتك عجلة، إنما يَعجَل من يخافُ الفوت ويحتاجُ إلى الظلمُ الضعيف وقد تعاليتَ عن ذاك يا سيدي علوّاً كبيرا) ١، لَم يَبرأ الكونَ عابثاً ولا جارَ لاهياً وهو القائل سبحانه وتعالى: {وما خلَقنا السماءَ والأرضَ وما بينهُما لاعبين} ٢.
اللهُ يُحِبُّك
{إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} ٣، أتَرى؟ اللهُ يُحِبكَ ويُحِبكِ ويحبُّني.. الله يُحبنا جميعاً، ألم تسمع كم مرةً خاطبنا الله بعطفٍ في كتابه الكريم، كم مرةً قال لنا: "يا عبادي"؟
إلهُنا عالِمٌ يعلمٌ بأحوالنا وبما يَصلَحُ لنا وما يَضُرُّنا، هذا المُدبِّرُ العظيم قادرٌ على فعل كل شيء، وهو الحكيم الذي يعلَم ويقدِر ولا يفعل إلا ما فيه المصلحة.
إذن، لم يظلمنا، بل اختار لنا ما يُناسبُنا بل الأنسَبَ لنا، فعلامَ الحُزن وأنت في أحسن حالاتك - حتى وإن لم تُدرك الحكمة والعلّة - .. ربّاه ما أرحمَك!.
مالِكٌ أنا أم مُؤتَمن؟
غرَّنا تكاثر نِعَمِه ودوامُ آلائه حتى توهّمنا أنّ كل ما بين دفّتينا هو مِلكٌ لنا، نتحسّرُ أسىً على ما فقدناه غافلين عن حقيقة أننا مؤتَمَنون على ما لدينا، لا نملك شيئاً، {إنا لله} تريّث وأنت تتلوها ثم استأنِف: {وإنّا إليه راجعون} ٤.
عقيدتنا بالمرض
ما بالُ الناس يُشفقون على من حباهُ الله نعمةَ المرض؟ إمامنا السجاد عليه السلام يحمد الله على المرض كما يحمده على العافية، بل يقول: (فما أدري يا إلهي أي الحالتين أحق بالشكر لك وأيّ الوقتين أولى بالحمد لك)، يا معاشرَ المتأسفين على المرضى وآلامِهم.. المرضُ نعمةٌ عظيمة بخسناها حقَّها.
يكشف روحي فداه السر في فقرة أخرى من دعائه فيقول: (وقت العلّة التي محّصتني بها، والنعم التي أتحفتني بها تخفيفاً لما ثَقُل بِهِ على ظهري مِنَ الخطيئات وتطهيرا لِمَا انغمستُ فيهِ مِنَ السيئات، وتنبيهاً لتناول التوبة، وتذكيراً لِمَحْوِ الحَوْبَةِ بِقَديمِ النِّعمَة) ٥.
الله أكبر أيّ فضلٍ هذا! حيَّ على الاستيقاظ من سباتِ الجهل وضعف العقيدة، لم يحطِّم اللهُ أحلامَنا بل حمانا ودبّر شؤوننا بما تقتضيه مصلحتُنا، ولم يحمّلُنا ما لا نقدر على حمله من الابتلاءات.
كن سعيداً وتلذذ بالنعم
المرضُ وجهٌ واحد من وجوه النعم والحكمة الإلهية، لحظةٌ من التفكّر تكفي لنرى النعم التي أغرقنا الله بها، ونحن نصر على التشبث بما يؤلمنا، {إنّ مع العسر يسرا} ٦، (مع) لا (بعد)، لكننا وضعنا على بصرنا وبصيرتنا حجاباً فلم نرَ أن العُسر في حقيقته يُسرٌ ورحمة. دعونا نرى النعم نعماً ونعرف قدْرَها ونراعي حقَّها، عسانا نُكتب في السماءِ: أزهارَ أوركيدا.. أثمرت.
إلهي.. (وحبِّب إليَّ ما رَضِيتَ لي).
اضافةتعليق
التعليقات