الشكوى عادة هي أمر مذموم، فلا أحد يُحب معاشرة كَثيري الشكوى، أو من يُظهر اعتراضه وامتعاضه وانزعاجه مما هو فيه أو مما يَمر به، ولكن الشكوى التي يُربينا عليها إمامنا زين العابدين(عليه السلام) في مناجاة الشاكين، يُراد منها أمور أخرى، منها: عرض الحال بحثًا عن تغييره بل وبها يرينا الحلول، فهذه المناجاة وكل ما نقرأه في أدعيته (صلوات الله عليه) فيها بيان لدائنا ودوائنا.
شكايات ثلاثة في المناجاة
إذ نجد إن هناك ثلاث شكايات تراتبية، أولها شكاية على النفس الأمارة بالسوء بقول: [إِلَهِي إِلَيْكَ أَشْكُو نَفْساً بِالسُّوءِ أَمَّارَةً]، وثانيها على الشيطان، بقول [إِلَهِي أَشْكُو إِلَيْكَ عَدُوّاً يُضِلُّنِي، وَشَيْطَاناً يُغْوِينِي]، والشكاية الثالثة هي على القلب وذلك بقولنا: [إِلَهِي إِلَيْكَ أَشْكُو قَلْباً قَاسِياً...](١)، وكأن النفس قد تحالفت مع الشيطان ليتحكما بالقلب الذي هو بمثابة أداة تنفيذ هلاك صاحبه هذا!.
بماذا تنفعنا الشكاية لله تعالى؟
من الملفت إن المناجاة ببث الشكوى عبرت بمفردة[إليك] وليس[لك] ولعل في ذلك إشارة لإظهار جدية الشاكي وسعيه الحثيث لتحقيق التغيير والارتقاء في تكامل ذاته، فهو لا يعرض حاله لله تعالى فقط، بل يعيش حالة التسليم، فيتجرد من حوله وقوته إلى حول وقوة ربه، وذلك بقوله في ختام المناجاة: [إِلَهِي لَا حَوْلَ لِي وَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِقُدْرَتِكَ، وَلَا نَجَاةَ لِي مِنْ مَكَارِهِ الدُّنْيَا إِلَّا بِعِصْمَتِكَ...](١).
وهنا يُثَبت فينا الإمام (عليه السلام) حقيقة العبودية، ويرسم لنا لا بدية عدم محدودية افتقارنا إلى نظرة المعبود وعنايته وكفايته، فلا منجي لنا من ضعفنا وعللنا، ولا حافظ لنا من أن يتمكن منا أعدائنا، ولا يوجد حائل دون قسوة قلوبنا إلا هو سبحانه وتعالى.
وفي الوقت ذاته في هذه الشكاية نوع من التأدب والاعتراف يُقر به من له نفس قوية تجاه مغريات وزينة الدنيا، ومن هو من أصحاب القلوب المهتدي اللينة، بأن ما هو عليه إنما هو من أفضال ربه عليه وبقدرته عز وجل لا بقوة مستقلة من ذاته، فهو بذلك يُذكر نفسه كي لا تجحد، وكذلك طلبًا للبقاء على هذا الحال، وبلوغ المزيد من الثبات، فَسِرُ الثبات على حُسنِ الحال بدوام الشعور بالافتقار والاضطرار بين يديه سبحانه.
النفس ومركزية تأثيرها
توصَف-كما في الأحاديث- النفس الأمارة بالسوء بأنها "أعدى أعدائنا" الداخلية، لأنها سبب تَمكِن أي عدو خارجي منا، لذا فإن النفس متى ما كانت قوية فإنها لن تخضع لعدو، يصفه تعالى بقوله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}(النساء :76)، كما ولنا أن نتخيل أي ضعف هي فيه، حتى تتأثر بمن هو ضعيف، وأي مصير وحال ستأخذه صاحبها إليه؟!
إذن النفس هي الحصن الأول الذي يُحدد توجه القلب وسلامته، فهي متى ما ارتقت من هذه المرتبة إلى مرتبة النفس اللوامة أو المطمئنة؛ هي لن تسمح لوسوسته أن تصل للقلب الذي هو إمام الجوارح وقائدها، والمُحرك الذي يجعل الإنسان يُقدِمْ أو يُحجِمْ في خطواته وقراراته وحركاته.
بينما ضعفها يجعل القلب يقسو شيئا فشيئا ليكون أداة طيعة يتقلب مع وساوس الشيطان، كما ورد في فقرات شكاية القلب، إذ نقول[مَعَ الْوَسْوَاسِ مُتَقَلِّباً، وَ بِالرَّيْنِ وَالطَّبْعِ مُتَلَبِّساً، وَعَيْناً عَنِ الْبُكَاءِ مِنْ خَوْفِكَ جَامِدَةً، وَإِلَى مَا يَسُرُّهَا طَامِحَةً](١)، فلكثرة ما سيحاط به القلب من ظلمانية، وما عليه من رين وطبع لن ينفذ النور إليه؛ فيصبح الحق والباطل سيان أمامه، فيكون صاحبه أعمى بلا بصيرة، وتُرفع منه مخافة الله تعالى، فيسير وراء ما ترغب وتهوى هذه النفس.
ولهذا ذَكر الإمام (عليه السلام) في فقرات هذه المناجاة العلامات والأعراض التي نعرف من خلالها حال هذه النفس وفي أي مرتبة هي؟ فلنتتبعها ولنجلس جلسة مكاشفة لنرى هل نحمل نفس قوية أم نفس ضعيفة أمارة بالسوء؟ وبذلك سنعرف مدى استجابتنا للعدو، وحال قلوبنا أيضا ما هو؟ فإن أدركنا ذلك نكون قد حققنا ثمرة شكايتنا، وتلمسنا الإستجابة لمناجاتنا.
______
اضافةتعليق
التعليقات