اتأمل وجوه المارة يوميا.. افكر من سيشتريني فسعري زهيد ولاتميز لي عن الاخرين ولكني كنت آمل ان اكون من نصيب شخص تقي طاهر.. اعينه في مسيرة حياته الربانية.
حتى لاح يوما ما وجه حاكم البلاد برفقة خادمه.. لنوره وهيبته جلالة تأخذ بالابصار، فكرت مع نفسي هل انا استحق ان اكون ملك له او لخادمه.. طلب من صاحب المحل ان يبعه ثوبين.. فأختارني صاحب المحل مع ثوب اخر كان بثلاثة دراهم.. عرفت عندها انني سأكون للخادم.. مع ذلك استبشرت فهو ليس كأي خادم هو من عباد الله الاتقياء ..
التفت حاكم البلاد لخادمه وقال: يا قنبر خذ الثوب الذي بثلاثة دراهم.. فقال قنبر: أنت أولى به تصعد المنبر وتخطب بالناس.. فقال امير المؤمنين: أنت شاب ولك شره الشباب وأنا أستحيي من ربي أن أتفضل عليك .
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ألبسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تأكلون.
كيف لا وهو امير المؤمنين علي عليه السلام.. ومنذ تلك اللحظة وانا اصبحت المتشرف بكوني ثوب وصي رسول الله صلى الله عليه وآله.. تشربت انسجتي بعطر طهارته.. بذلت جهدي لوقايته من حر الصيف وبرد الشتاء.. في الحروب تتماسك خيوطي بشكل محكم محاولة مني في وقاية جسد سيدي ومولاي من السهام المتطايرة، وحقد المنافقين والخوارج .
بالاضافة الى شجاعة الامام علي وبأسه في الحروب وقسوته على اعداء الله.. الا انه كان مجسداً أسمى معاني الانسانية والرحمة والمحبة لعباد الله..
يُمضي ساعات النهار وهو يقضي حوائج رعيته وتفقد احوالهم وتنظيم امرهم.. لايفرق بين العربي والاعجمي والابيض والاسود.. حتى انه يوما ما قد اقدم اخوه عقيل وقد املق من الفقر وصبيانه شعث الشعور غبر الالوان.. فطلب من امير المؤمنين القليل من بيت المسلمين.. فأحمى امير المؤمنين حديدة عندما اقتربت مني ارادت ان تحرقني فقربها امير المؤمنين من جسد اخيه.. فضج عقيل من ألمها، فقال الامام له:
ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه؟ أتئن من الأذى ولا أئن من لظى .
اما إن جنّ الليل يقوم ليتوضأ فتسقط حبات الوضوء النورانية من جسده على انسجة خيوطي حاملة معها عطر الولاء النابعة من طهارة جسده.. يتلو القرآن بذلك الصوت العذب الذي ادمناه وادمنته كل الطبيعة التي حوله.. تنهمر دموعه من خشية الله وعشقا بجبار السماء، وتتسارع الخيوط المكونة لهيكلي لتنعم بأمتصاص حبات الدموع تلك.
سواد الليل كان نقابه الذي يرتديه ليتفقد احوال رعيته خفية حتى ان قسما كبيرا منهم كانوا ينتظرون قدومه وهم يجهلونه.. بصمات الايتام وهم يتعلقون بأطرافي خشية مفارقة امانهم وملجأهم مازلت احتفظ بها .
فكان يُمسي وهمه الشكر.. ويُصبح وهمه الذكر .
تعلقت به.. وبدأت اخاف فراقه.. طالما ثُقبت اجزاء من جسدي وتمزقت فكان يرقعني حتى قال له قائل الا نبذتها؟! فقال عليه السلام: اغرب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى .
ومع كل ترقيعة كنت استبشر فقد كتبت لي حياة جديدة برفقة سيدي واميري ..
حلت ليلة التاسع عشر من شهر رمضان.. الليلة موحشة، النجوم باهتة، الغيوم السوداء تغطي ماتبقى من القمر.. هناك امرا مخيفا سيحدث لازلت لا اعلمه.
حان موعد الافطار.. قدمت سيدتي ام كلثوم له فطوره في طبق فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن حامض وجريش ملح، فقال لها: قدمت إدامين في طبق واحد وقد علمت أنني متبع ما كان يصنع ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما قدّم له إدامان في طبق واحد حتى قبضه الله إليه مكرماً، ارفعي أحدهما فإن من طاب مطعمه ومشربه طال وقوفه بين يدي الله. فرفعت اللبن الحامض بأمر منه وأفطر بالخبز والملح..
لم يزل اميرنا تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، يخرج ساعة بعد ساعة يقلّب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول: وإنها الليلة التي وعدت بها .
خوف الفراق وحسرة الضياع اعترت كل الارجاء.. ارتداني الامير واستعد للخروج الى المسجد ..
نزل إلى الدار وكان في الدار إوز.. خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه وكن قبل تلك الليلة لم يصحن فقال (عليه السلام): لا إله إلا الله، صوائح تتبعها نوايح..
ايقنت ان خروجه هذا فيه خطر.. وصل الى الباب علقت نفسي بالباب علني استطيع منعه حتى انحلت الازار، فلم يمنعه ذلك.. فشده وهو يقول:
أشــدد حيازيمك للموت فــإن المــوت لاقـيكا
ولا تــــجزع من الموت إذ احـــلّ بـــواديكا
كما أضــحـكك الـدهر كـذاك الــدهر يبـكيكا
ثم قال: اللهم بارك لنا في الموت.
سيدي ياعلي نعلم انك لاتخاف الموت.. ولكننا نخاف الحياة من دونك.. رضاً بقضاءك يارب ..
وصل المسجد.. حان موعد الصلاة، بذلك الصوت الروحاني مولانا يرفع الأذان.. نزل وبدأ بصلاته.. اسودت الدنيا.. لم اعد ارى شيئا.. كل ما اشعر به هو تدفق الدماء الطاهرة من رأسه الشريف.. وبختُ انسجتي، مالكم تتركون الدماء تسقط ارضاً!. خذوها وتشربوها كما تشربتم حبه ..
صوت جبرائيل هز اركان المسجد: "تهدمت والله اركان الهدى"، حُمل مولانا الى داره.. مازلتُ متعلقا بجسده ليتني الفظ اخر انفاسي معه.. فلا حاجة لي بالحياة من دونه .
اصعب الساعات تمر على بني هاشم.. بين بكاء ودعاء.. حسرة وغصة.. ترقب الايتام خارجاً.. رجاءهم بسلامته وعودتهم بين احضانه .
اسمع نحيب عمامته وهي تلوم نفسها وتسألها كيف سمحت للسيف بالتعمق في رأسه الشريف ..
حتى عرق جبينه ومدد رجليه.. وفارقت روحه جسده..
انتهت حياتي، فما انا الا ثوب لعلي ابن ابي طالب والآن كاليتيم بعده.. آملت ان اتشرف وادفن معه.. حتى تذكرت قوله: ... اما واللّه لَأقتلنَّ انا و ابناي هذان وليبعثنّ اللّه رجلا من ولدي في آخر الزمان يطالب بدمائنا وليغيبنّ عنهم تمييزا لاهل الضلالة حتى يقول الجاهل ما للّه في آل محمد من حاجة.
فأملتُ ان اكون على اكتف ولده المهدي يوم ظهوره فأتشرف بأخذ ثأره .
اضافةتعليق
التعليقات