في صباح يومٍ بارد، كانت السماء ملبَّدةً بالغيوم، عندما نهضتُ من فراشي الدافئ. رغم برودة الجوّ، كنتُ أشعر بالحرّ، وكأنها حرارة تمّوز. خلعتُ ملابسي الثقيلة لكي أستطيع التنفّس، جلستُ أفكّر: ما بي؟ ولم هذه الحرارة في قلبي؟
فتحتُ النافذة وسحبتُ نفسًا عميقًا أشعرني هنيهةً بالانتعاش.
استيقظ زوجي بعد نومٍ عميق وهو يصيح:
– لقد تأخّرتُ عن عملي! لمَ لم توقظيني؟
– ما يزال الوقت مبكّرًا، لا تقلق. لن تتأخّر، فساعة الحائط متوقّفة منذ الأمس على الثامنة.
– حسنًا، حضّري الفطور حتى لا أتأخّر.
– ولكن يا عزيزي، ألم تُحضِر الخبز لنا بالأمس؟ اذهب لإحضاره بينما أعدّ لك فطورك.
فقال أكرم متثائبًا:
– أيقظي نور لكي تذهب لشراء الخبز.
– ولكن الجوّ بارد، اذهب أنت، أو أذهب أنا.
– لا، أيقظيها لتذهب بسرعة.
توجّهتُ نحو غرفتها مكرهة، وقد بان في وجهي الاستياء:
– نور! نور! قومي حبيبتي.
– ماذا يا أمي؟ ما يزال الوقت مبكّرًا، واليوم عطلة.
– اذهبي واحضري لنا الخبز، يا حبيبتي.
نور، ابنتي البكر، عمرها تسع سنوات وأربعة أشهر وسبعة أيّام. جميلة جدًّا وهادئة، ذات عيونٍ واسعة وشعرٍ أسود ناعم ولامع. وجهها أبيض، وفي نظراتها تتكوّم براءة الدنيا كومةً واحدة.
عندما أتحدّثُ إليها، أحسّ أنها أختي أو صديقتي التي بعمري. رغم صغرها، تتحدّث حديث الكبار، فعقلها أكبر من سنّها.
نهضت نور وقد بانت علامات التذمّر في وجهها قائلة:
– الجوّ بارد، يا أمي!
– حسنًا حبيبتي، ارتدي معطفك.
– أمي، أريد أن أرتدي شالك، فأنا أشعر بالدفء عندما أرتديه.
– حسنًا، ارتديه ولا تتأخّري.
لا أعرف لِمَ يعصر الألم قلبي كلما نظرت إليها...
نزلت نور مسرعة، ركضتُ إلى النافذة دون شعور، فأنا أسكن في شقّة بالطابق الثاني.
وقفتُ أنظر إليها من النافذة التي تطلّ على الشارع حتى اختفت عن ناظري. دخلتُ المطبخ، كان فكري مشوّشًا، لا أعرف كيف جهّزتُ الفطور وأنا أنظر إلى الباب مرّة وإلى النافذة ألف مرّة.
انقضت نصف ساعة ولم تأتِ.
– لقد تأخّرت، اذهب إليها...
قال أكرم بتجهّم:
– سوف تأتي بعد قليل، فعادةً يكون المخبز مزدحمًا في الصباح.
مرّت ساعة ولم تأتِ، وكلما مرّ الوقت، كانت نار قلبي تضطرم أكثر، والخوف يستفحل دون هوادة، مكشّرًا عن نابَين ذميمَين ينهشان كلّ شلوٍ منّي...
فقلت بعصبيّة:
– انهض يا رجل، لقد تأخّرت البنت كثيرًا، مرّت ساعة ونصف!
نزل أكرم مسرعًا إذ انتابه القلق هو أيضًا، فليس من عادتها التأخّر هكذا.
وقفتُ حائرة في باب شقّتي أدعو ربي أن يرجعها بالسلامة... رأتني جارتي أم جاسم، فجاءتني مهرولة وقد هالها وجهي الشاحب:
– ماذا بكِ؟ لم أنتِ خائفة وقلقة؟
أخبرتها ما حدث، فقالت:
– منذ متى ذهبت ابنتك؟
– منذ ساعتين أو أكثر.
فصاحت في وجهي:
– ولم ما زلتِ جالسة هنا؟ ماذا تنتظرين؟ هيا نذهب ونبحث عنها.
جارتي امرأة وقورة، في الستين من عمرها، لم يرزقها الله بأولاد، لذا كانت تحبّ نور وتتودّد إليها، تمشّط شعرها وتحكي لها القصص والحكايات عندما تزورنا.
نزلتُ معها، لا أستطيع المشي، ولم أقدر حتى أن أحمل ابني ذا السنة والنصف من عمره. لمّا وصلنا قرب المخبز، رأيت الكثير من الناس متجمّعين، فسألت جارتي رجلًا:
– ما الذي يحدث؟
فقال:
– هناك طفلة عبرت الشارع فدهستها سيارة.
سألتُه:
– ماذا كانت ترتدي؟ وكيف شكلها؟
فقال:
– ترتدي فستانًا أزرق.
– لا، إنها ليست ابنتي، فابنتي كانت ترتدي سروالًا أسود، وقميصًا مورّدًا، ومعطفًا رصاصيًّا، وشالي...
إنها ليست ابنتي.
اطمأن قلبي لبضع دقائق، وآمنت بأنها ليست نور.
وإذا بصوت زوجي يناديني من بعيد:
– اذهبي إلى البيت.
– أين نور؟ وأين تذهب؟
– لا أعرف، أنا ذاهب إلى المستشفى، ربّما تكون هي مَن دُهست.
– لا، ليست هي. إنهم يقولون إنها كانت ترتدي فستانًا.
تركني زوجي حائرة وذهب. لم أكن أعرف ماذا أفعل، شعرت أن الزمن قد توقّف، وأنّ الصباح صار ليلًا شديد الظلام. لقد اسودّت الدنيا في عينيّ.
انتبهتُ على صوت جارتي وهي تقول:
– هيا نذهب إلى المستشفى.
أوقفتْ سيارة أجرة. كنتُ قد نسيت ابني تمامًا، فانتبهتُ فجأة إلى صوت بكائه، كانت تحمله، أخذته منها وانطلقنا باتجاه المشفى.
مررنا من شارع الباب الخلفي، فرأيتُ سيارة شرطة وناسًا متجمّعين، تقف قربهم سيارة. أمعنتُ النظر إليها دون إرادة، ثمّ تابعتُ أحثّ الخطى نحو قسم الطوارئ.
بحثتُ في الأسرّة، لم أجد ابنتي.
سألتُ الممرّضة:
– هل جاؤوا بطفلة دهستها سيارة؟
قالت:
– لا، اذهبي إلى قسم الطبّ العدلي!
– أوّل مرة أسمع به، ماذا يكون هذا القسم؟
صاحت جارتي:
– إنه قسم للموتى.
قلت لها:
– ولمَ نذهب هناك؟ ابنتي لم تمت، لأن الرجل الذي قال إنها دُهست قال إنها كانت ترتدي فستانًا، وأنها قامت وصعدت السيارة، لم تُصب بأذى.
ابنتي لم تمت!
قالت جارتي:
– هيّا لنذهب...
لكني لم أستطع المشي، سقط ابني من يدي، وقدماي كانتا ترتجفان. خلعتُ حذائي وركضتُ، لا أعرف إلى أين أتّجه في حديقة المشفى.
صاحت جارتي:
– من هنا باب الطبّ العدلي!
ركضتُ إلى ذلك الباب دون شعور، دستُ على قطعة زجاج وجرحتُ قدمي، فبدأت تنزف، ولكني لم أشعر بألم فيها.
ركضتُ وجارتي المسكينة تحمل ابني وتركض ورائي. دخلتُ من ذلك الباب. كان زوجي وأولاد عمّه ورجال الشرطة وحديث وصياح.
ولكن أين ابنتي؟
لا أحد يجيبني.
رأيتُ رجلًا وسط الشرطة يتحدّث لهم كيف أنّه دهسها.
سألتُه بصوت عالٍ:
– أين ابنتي؟
فأجاب مذعورًا:
– إنها في تلك السيارة.
السيارة التي مررنا بها قبل قليل، وهي واقفة، كتابوتٍ مختلف.
كانت ابنتي بها إذًا.
عرفتُ حينها لماذا بقيت صورة السيارة عالقة في واجهة عقلي. ركضنا نحوها، وجدتُ نور نائمة في المقعد الخلفي.
لماذا هي نائمة هكذا ولا تفتح عينيها الجميلتين؟
فتح والدها الباب مندفعًا، كمن آب إلى رشده دفعة واحدة، وصاح:
– نور! نور!
لم تجبه، ولم تفتح عينيها العسليّتين.
كانت نور نائمة نومًا عميقًا، تتلألأ حول وجهها هالة مشرقة، وترتسم فوق شفتيها بسمة، وكأنها تراقص الملائكة الصغيرات في عوالم تضجّ بالنور...
نامي يا ابنتي نومًا هنيئًا، نامي، فلن يوقظكِ أحد بعد الآن لشراء الخبز...
اضافةتعليق
التعليقات