في زمنٍ تتكئ فيه الأرواح على ظلٍّ خافت، وتتكالب فيه المعارك الخفيّة داخل العقول قبل أن تظهر على السطح، وُجدت امرأةٌ تتقن الإصغاء إلى ما لا يُقال، امرأةٌ لا تُداوي الجسد، بل تتسلّل إلى شقوق الروح لترمّم ما أفسدته الوحدة، والفقد، والخذلان، وكلّ ما لا يُدوَّن في تقارير التشخيص.
رغدة عامر الحيدري – ليست طبيبةً نفسيّة فحسب، بل جنديّة حرب ناعمة تُقاتل من خطوط الصمت، وتبني من النبض المتعب رُقى الحياة.
من كربلاء، حيث يختلط صوت الدعاء بأنين الأحلام، تخرّجت من كلية الطب عام ٢٠١٩، كان ذلك بابها الأول إلى ما يشبه النذر: أن تُكمل طريق والدها، الطبيب النفسي المعروف د. عامر الحيدري، وأن تُحيي في قلبها إرث والدتها، الدكتورة رغد نعمان، التي وشمت على جدار ذاكرتها جمال الفن ورقّة الشعور.
كبرت رغدة في بيتٍ لا يشبه البيوت، لم تكن الطفولة فيه عابرةً بين دفاتر المدرسة ومراجيح الحديقة، بل مزيجًا من طبّ النفس ولوحة ألوان، تعلّمت فيه أن الأطباء لا يكتبون وصفاتٍ فقط، بل يُمسكون يدًا خائفةً، ويُربّتون على كتفٍ مهزوز، ويقولون: "أنا معك".
حين بدأت مسيرتها المهنية، عرفت منذ الأيام الأولى أن الطريق لن يكون معبّدًا، فحياة الطبيب في العراق ليست مجرّد مهنة، بل سلسلة تنقّلات بين المستشفيات، وساعات طويلة من العمل، وقلوب كثيرة تئنّ تحت وطأة صراعاتها.
قالت ذات اعتراف:
“تنقّلتُ كثيرًا، مدنٌ ومستشفياتٌ وتجارب لا تُحصى، لكن في كلّ مرةٍ كنتُ أخرج بقلبٍ أوسع، وتفهّمٍ أعمق للناس. الألم مدرسة، وأنا تلميذة فيها.”
ولأن الطبيب لا يُولد طبيبًا، بل يُصقل في المعارك، أدركت رغدة مبكرًا أنّ العلم وحده لا يكفي، لا بدّ من الفن، لا بدّ من الإنسان الذي في داخل الطبيب. تمسّكت بالرسم كأنّه نجاة، وكانت كلّ لوحة ترسمها بوحًا يوازي جلسة علاج. في مؤتمراتٍ ومعارض متعدّدة، وضعت لوحاتها أمام الحضور، لكنّها لم تعرض ألوانًا فقط، بل عرضت اضطراباتٍ وهواجسَ ومراحلَ صامتة عاشها الآخرون.
وفي مؤتمر الطب النفسي الخامس، وأمام وزير الصحة الدكتور صالح الحسناوي، قدّمت معرضًا عن الاضطرابات النفسية، وكأنها تقول: "هنا الألم… لكنه قابل للفهم، وربما للشفاء."
تعمل اليوم في مستشفى بغداد التعليمي، وتتابع دراسة البورد في الطب النفسي، ولا تزال تحمل على كتفيها همّ التوعية ونشر الثقافة النفسية.
من ضمن نشاطاتها الميدانية، مشاركتها في حملات توعوية في شارع المتنبي، ومنها فعالية مخصصة ليوم الفصام العالمي، إذ لم تكن هناك فقط كطبيبة، بل كمَن يحاول أن يكسر الصور النمطية عن المرضى، ويُعيد لهم اسمهم الإنساني.
وحين تُسأل رغدة عن المرأة في زمن الحرب الناعمة، لا تكتفي بالتحليل العلمي، بل تُلقي بصرختها النابعة من قلبٍ يعرف المعركة:
“المرأة ليست رقمًا في معادلةٍ اجتماعية، بل هي مركز الاتّزان. إن سقطتْ، اختلّ البناء، وإن تصدّعت نفسيًّا، تهدّم المجتمع. فالحرب الناعمة لا تُطلق الرصاص، بل تُشكّك، وتُضعف، وتُهشّم الثقة. ولذلك فإن أقوى ردّ هو أن تُحصّن المرأة نفسها من الداخل، أن تعرف قيمتها، وتُدرك أنّ حفظ نفسِها هو حفظٌ للأمّة.”
لكن، ما الذي يجعل إنسانًا، رغم هذه الضغوط، يُصرّ على الاستمرار؟
ربما هو الإيمان بأنّ "لا شيء ثابت"، كما تقول رغدة، لا الحزن يدوم، ولا السعادة تقيم في بيتٍ واحد إلى الأبد.
“الحياة تُشبه تخطيط القلب، خطوطها المرتفعة والمنخفضة دليل على أننا لا زلنا على قيد النبض، أمّا الخطّ المستقيم، فهو الموت.”
ولعلّ أجمل لحظات هذه الطبيبة ليست تلك التي تُصنَّف علميًّا، بل لحظاتٌ صغيرة تشهد فيها مريضًا تحسّن، أو راجعًا بدأ يبتسم، أو قلبًا تخلّص من قيوده.
“حين أرى التحسّن في عيون مرضاي، أشعر أنني أُزهِر… نعم، هناك أثمار تنبت من صبرنا، ومن صمتنا أحيانًا.”
ورغم كلّ ما تعيشه، لا تزال رغدة تعود إلى جذورها الأولى… إلى بيتها الذي صاغ ملامحها، إلى والدها الذي زرع فيها حبّ النفس الإنسانية، وإلى والدتها التي علمتها أن الفنّ مقاومة.
لا تنسى أن تذكر أختها دومًا، صديقتها وداعمها وسندها في كلّ انكسار.
“جيشُ المرء عائلته”، تقول، ثم تصمت كأنّها تُسلّم قلبها للامتنان.
رغدة الحيدري ليست مجرد طبيبة نفس، ولا فنانة ترسم الوجع، هي امرأة من هذا الوطن، تُؤمن أن العطاء هو البداية، وأن كلّ جرحٍ في هذه البلاد قابلٌ للشفاء، إن كان هناك مَن يُصغي للروح قبل أن يُقيس الضغط.
وهي، كما تُحب أن تصف نفسها:
“طبيبةٌ تُحبّ الحياة… وتحاول أن تُعيدها للآخرين.”
رسالتي في الحياة:
أن أقدِّم التغيير الذي أطمح إليه في مجال الطبّ النفسي، وأترك بصمتي النابعة من القلب، تلك التي لا تُرى بالأعين فقط، بل تُشعر في عمق النفس. أريد لحياتي أن تكون جسرًا يعبر عليه الآخرون نحو الراحة، وأن أكون لخطواتهم المتعثّرة بعض اتّساعٍ وطمأنينة.
ولكلّ امرأةٍ تبحث عن ذاتها في متاهات الحياة:
تذكّري أنّ الهُويّة لا تُهدى، بل تُكتشف، وأننا غالبًا لا نجد أنفسنا في أوّل الطريق، بل في محاولاتنا المستمرة لطرقه. قد يجد أحدهم ذاته في كلمة، أو في عيني شخص، أو بين جدرانِ مكان… أو في كلّ هذه الأشياء مجتمعة. لأننا، في نهاية المطاف، خليطُ تجاربٍ، لا نتيجة حتمية.
فلا تخشي الفشل، لأنّ الخوف من السقوط هو السقوط الحقيقي، أمّا من تحاول، فقد بدأت تُولد من جديد.
ومن أين أستمدّ طاقتي الإيجابية؟
من يقيني بأنّ الإنسان قد يحتاج أن يسقط… قبل أن يتمكّن من الطيران.
فكلّ انحناءة ضعف، هي تمهيد لانطلاقة، وكلّ ظلمة نمرّ بها، تُنبت فينا ضوءًا لم نكن نعرف أنّه فينا. أنا رغدة الحيدري… طبيبة، فنانة، امرأة تُحبّ الحياة وتحاول أن تُعيدها للآخرين… بكلّ ما فيها من نبض، وأمل، وتحوّل.
أُزهِرُ رغم التقلّب، لأنّ في كلّ شتاءٍ داخلي، تختبئ بذرةُ ربيع.
هذا النصّ ليس مجرّد كتابة… بل هو ثمرُ لقاءٍ حواريّ دافئ جمعني بالدكتورة رغدة الحيدري، فأنصتُّ لما وراء الكلمات، ودوّنتُ ما استطاع القلب أن يلتقطه.
اضافةتعليق
التعليقات