أحب الصيف، مؤكد ودون شك، لعلي لا أرتاح في درجات الحرارة الأعلى أو أوشك على الإغماء أحياناً ولكن لا بأس، لا أجد في ذلك من ضير، أجدني أكثر طاقة وحيوية ومرونة، وأكثر قدرة على الإيمان بأحلامي في الصيف، لا أشعر بسعادة صافية وخفة روح وبدن كما أشعر بها في هذا الفصل... وبينما يعد الناس الأيام لانتهائه، أشعر بشيء من الأسى ما إن يبتدئ هذا الفصل الأثير عندي لأنه بطريقة ما يعني إنه موشك على الرحيل.
غير أن ما أجد فيه مشكلة ليس فصل الصيف، ولكن الطريقة التي نفكر فيها به، والطريقة التي نحيا بها وتجعله رغماً عن مزاياه غير محتمل.
دعني أوضح لك، يميل الناس إلى السهولة المفرطة في أيامنا هذه، وينزعجون من المشاعر المختلفة حتى السعادة الحقيقية الكبيرة التي تبدو كما السير على الغيم، لفرط الكسل يفضلون البلادة فقط، لا شعور ولا فكرة، لذا لا يحب الناس الصيف لأنه قد يمنح "شعوراً بالحر" الذي لا يناسب معظمنا، فأجسادنا تكيفت خطأ على التبريد، والأصل أن يتكيف جسد الكائن الحي تلقائياً على بيئته، ولأنهم أيضاً يحتاجون إلى خطوات إضافية للتعامل مع نتائج الحرارة، مثل الاستحمام، وتناول المثلجات والمرطبات، وغير ذلك مما ليس بالعسير طالما ما زالت أنهار العراق لم تجف بعد.
الأمر الآخر هو أننا نصمم حياةً ليست مناسبة لطقسنا، شوارع بلا أشجار أو بأشجار زينة قصيرة لا فيء لها، وهذه الشوارع مليئة بالإنارة الكهربائية والشمس تشرق مشعة ساطعة طوال أيام السنة من الفجر الباكر إلى أواخر اليوم.
كذلك نبني عمارات زجاجية تمتص الحرارة أو حديدية أو أسمنتية مصمتة دون حساب لمنافذ الهواء الطبيعي وحركته وخلق تيارات في المباني تخفف الحرارة، وبناء أسقف ظلية لحماية المارين من أشعة الشمس اللاهبة، وما إلى ذلك من تدابير ذكية للتعامل مع طبيعة الجو الحار الممتد على مدى أربعة أشهر من السنة، وأيضاً تُصمم الملابس من أقمشة لا تناسب الجو وبطريقة لا تحسب حساباً للحرارة، وكأن مصممي العمارات والمشرفين على المدن ومصممي الملابس ومستورديها جاؤوا من آلاسكا ولا يعرفون طبيعة الجو، ويتفاجأون كل صيف.
وما يجعل الصيف غير محتملاً أيضاً تنظيمنا لأوقاتنا، فلماذا لا يبدأ العمل مبكراً وينتهي مبكراً قبل أن تهتاج درجة الحرارة عملاً بما جاء في القرآن الكريم (وهُوَ الَّذي جَعَل لكمُ اللَّيلَ لباساً والنَّومَ سُباتاً، وجَعَلَ النَّهارَ نُشوراً) وأكده رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما يروى عنه "بورك لأمتي في بكورها"، وبالنسبة للأعمال الأطول يمكن أخذ استراحة لثلاث ساعات في وقت الظهيرة ثم العودة في المساء الألطف؟
ثم إننا تركنا بعض أكثر العادات الطيبة التي ورثناها من الحضارات القديمة في الحفاظ على شعور طيب خلال الصيف من خلال الماء المبرد طبيعيا في أواني الفخار، والتبريد الطبيعي للجو عبر حركة الماء، واللجوء للسطح للنوم مما يمنح الجسد والعين صحة وعافية، والذهن والقلب صفاءً وطمأنينة عند تأمل نجوم الليل الصيفي الساحر.
ومما يبعث على التساؤل والعجب ذلك الامتعاض الدائم من الحرارة العالية وكأننا نُقلنا بالإجبار للتو لهذه المنطقة، ولسنا نعلم أنها سُنة الله بتبدل الفصول التي لا بد أن خيرها لنا كثير، وبذلك نحن نعترض ونواصل الاعتراض على ما هو في الأساس نعمة عميمة لم نجد التعامل معها فحسب، الكل متفقون إتفاقاً متيناً على التذمر بدل إيجاد حلول عملية قابلة للتطبيق، فالمعطيات تقول إن الجو سيزداد حرارة في العشر سنوات القليلة القادمة، ونحن بأمس الحاجة لإعادة ترتيب الحياة والوقوف وقفة جادة لتصحيح المسار، بدل حالة التذمر والتقاعس العجيبة، وترك الأمور تأخذنا إلى المهالك، ذلك ليس رفاهية بل واجب إنساني ووطني وإيماني، أن نتعلم ونعلم الأجيال حب ما مُنحنا، والعيش وفق ذلك، مستثمرينه استثماراً طموحاً واعداً بما يتفق وخصائص خلافة الإنسان للأرض.
اضافةتعليق
التعليقات