إن القلق الاجتماعي هي درجة ما يشعر به الفرد من قلق في موقف اجتماعي ما تتوقف على عمليتين أساسيتين: الأولى هي درجة دافعية الفرد لخلق انطباع مرغوب فيه عن ذاته لدى الآخرين والثانية هي درجة توقع الفرد لقدرته على النجاح في العملية الأولى وتتفاعل هاتان العمليتان، ويأخذ هذا التفاعل نمطاً محدداً، حيث إذا كانت درجات الفرد في كلتا العمليتين معاً مرتفعة، فسيؤدي ذلك إلى زيادة مستوى قلقه الاجتماعي.
أما إذا كانت درجة دافعيته العملية الأولى تساوي صفرا، أو إذا كان على يقين من قدرته على تقديم ذاته للآخرين كما يرغب العملية الثانية، فلن يعاني أي قلق اجتماعي، ويجب أن يكون واضحا أن الانطباع المرغوب فيه ليس مرادفا للانطباع الجيد، ولكنه يتحدد وفقا للأهداف التي يريد الفرد تحقيقها من تقديم ذاته إلى الآخرين بصورة محددة في الموقف المعين ولهذا ، فربما يكون كل هدف الفرد في موقف اجتماعي ما هو عدم ترك انطباع سيئ عن نفسه لدى الآخرين، بل أحياناً ما يكون كل هدف الفرد في بعض المواقف الاجتماعية هو أن ينزوي وألا يلحظه الآخرون. ومثال ذلك، ما نجده لدى كثير من الطلبة عندما ينظر أستاذهم إليهم منتظرا أن يجيب أحدهم عن سؤال ما طرحه عليهم، أو حين يسألهم عمن يرغب منهم في التطوع لعمل ما غير متحمسين له.
لم تركز تلك النظرية على تحديد الخصائص والملابسات التي إذا توافرت في موقف اجتماعي ما، فسوف يكون مربكا، بل ركزت على مرحلة الحدوث الفعلي لمأزق الارتباك وورطته التي نشأت بالفعل وأصبح الفرد معايشا لها، لأنه فشل بالفعل في تحقيق أهدافه من تقديم ذاته إلى الآخر بشكل معين. ولذلك، فإن ليري وكوالسكي يؤكدان أن الارتباك استجابة لاعتقاد الفرد بفشله الفعلي في تقديم ذاته إلى الآخر بالصورة التي يرغب فيها. وتتوقع النظرية أن الارتباك يكون أكثر احتمالا للحدوث، عندما تكون دافعية الفرد ليخلق لدى الآخرين انطباعا محددا عن ذاته مرتفعة.
أما عن ارتباط الارتباك بالعملية الثانية ثقة الفردية على تحقيق الانطباع الذي يرغب فيه فهو أقل وضوحا في هذه النظرية، ذلك لأن المأزق أو حالة الارتباك قد نشأت بالفعل، وأصبحنا أمام واقع جوهره هو إدراك الفرد لفشله في تحقيق الانطباع الذي يرغب فيه. ومع ذلك، فإن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد لأن حدوث المأزق سوف يضع الفرد في موقف جديد، وبالتالي سيحاول الفرد وضع هدف جديد لتقديم ذاته، فإن القلق الاجتماعي هنا سيكون دالة لكل من أهمية الهدف الجديد واحتمال النجاح في تحقيقه من وجهة نظر الفرد .
يبدو إذن أن الموقف يجري وفق تتابع معين، يبدأ عند إدراك الفرد وجود بعض الإعاقات في عملية التفاعل الاجتماعي، وأن لهذه الإعاقات علاقات ما ودلالات ما بالنسبة إلى هويته الذاتية ووعي الفرد بهذا التباين بين هويته الذاتية كما يدركها الآخرون، وهويته الذاتية المرغوبة هو الذي يخلق القلق الاجتماعي لديه والفرد الآن يواجه بالفعل مأزقا، واستمرار قلقه من عدمه سيتحدد وفق اعتقاده في قدرته على تحقيق هويته الذاتية المرغوبة. ولما كان أحد الملامح الأساسية للاستجابة لموقف ما، هو أنها لا تظل ثابتة من دون تغيير، بل تتعدل وتتواءم عبر الزمن حتى يمكنها أن تساير بتناغم ما يحدث للفرد من تغييرات معرفية وفسيولوجية متتابعة، فإننا عندما نطلق على استجابة ما مسمى «ارتباك»، أو نشير إلى أنها تنشأ وتظل كما هي من دون تغيير، مصاحبة لاستجابات ظاهرة، مثل الابتسام وتجنب النظر في عين الآخر أو لردود فعل فسيولوجية (مثل الاستثارة المرتفعة) فإننا بذلك نتجاهل هذا الملمح المهم.
والسؤال الآن: هل يمكن التنبؤ بالارتباك، إذا كنا نعرف على وجه الدقة ما لدى الفرد من كلتا العمليتين اللتين أشارت إليهما نظرية تقديم الذات؟
إن إحدى صعوبات التنبؤ هنا هي أن المواقف المربكة في حياتنا اليومية هي بطبيعتها فجائية وغير متوقعة. ومع ذلك، فمن الممكن أن نصمم في المعمل، (معمل علم النفس مواقف معينة نتوقع أنها سوف تثير الارتباك. ففي إحدى الدراسات 1979 Edelmann & Hampson) طلب من كل فرد من أفراد العينة أن يعبر عن رأيه في عدد من اللوحات الفنية التي تعرض عليه. وبعد أن يقول الفرد رأيه في إحدى اللوحات، يظهر أحد الأشخاص بالاتفاق مع الباحث باعتباره الفنان صاحب تلك اللوحة التي انتقدها الفرد وقلل من شأنها. وكان يجري تسجيل ذلك بالفيديو. وبعد ذلك، كان كل فرد من أفراد العينة يجيب عن استبيان يتضمن عددا من الأسئلة عن ملابسات هذا الموقف موقف مواجهته الرسام المزعوم). وقد تبين أن خمسة عشر فردا من بين الأفراد الاثنين والعشرين المشاركين في الدراسة، قد قرروا ارتباكهم في هذا الموقف. وأشارت التحليلات التي أجريت لسلوكهم المصور بالفيديو أن هؤلاء الأفراد الخمسة عشر كانوا أكثر أفراد العينة ارتباكا في هذا الموقف، حيث تجنبوا النظر في عين الرسام، وكثرت أخطاؤهم في الكلام واضطربت لغتهم، وكثرت حركات الجسم العصبية.
ولا شك في أن تصميم مثل تلك الدراسات هو أنسب الوسائل لاختبار ما يمكن اشتقاقه من فروض نظرية تقديم الذات.
ولعل إحدى نقاط قوة نظرية تقديم الذات تركيزها الأساسي على كيفية إدارة الناس لارتباكهم. وفي هذا الصدد قدم غوفمان مفهوم عمل الوجه، وذلك عند عرضه الاستراتيجيات التي يستخدمها الأفراد لمواجهة ما يتعرضون له من ارتباك. وهناك فئتان عامتان من استراتيجيات إدراك الارتباك: الأولى هي الممارسات الوقائية، وهي ما يقوم به الفرد مسبقا ليتفادى كل ما من شأنه أن يمثل تهديدا لكيانه أو لذاته في موقف اجتماعي معين، فهي بمنزلة احتياطات يتخذها الفرد حتى لا يقع في مأزق الارتباك. والثانية هي الممارسات التصحيحية Corrective practices وهي(أفعال علاجية) يقوم بها الفرد بعد وقوعه بالفعل في المأزق وشعوره بالارتباك، وذلك بهدف استعادة التوازن وتقليص الخسائر الاجتماعية التي حدثت بالفعل.
وقد قدم بعض الباحثين تصنيفات تفصيلية لممارسات تقديم الذات ومنها على سبيل المثال تلك التي قدمها شيبيرد وأركين وتركز تلك التصنيفات على ممارسات معينة هي تقديم الاعتذار، وطلب الصفح أو عدم المؤاخذة، والتبرير باعتبار أن كلا من تلك الممارسات الثلاث تؤدي دورا محوريا في المحافظة على استمرار التفاعل الاجتماعي، والتغلب على ما يمكن أن يؤدي إلى انقطاعه أو توقفه تماماً.
وعلى سبيل المثال، فالشخص الذي يعتذر عن سلوك ما، إنما يعترف صراحة بأنه قد خرق قواعد معينة، وأن لتلك القواعد قيمتها وأهميتها ولا يجوز خرقها، وأنه يتحمل مسؤولية ما اقترفه ويبدي ندمه على ذلك. وإذا كان الاعتذار صادقا مناسبا لحجم وطبيعة الخطأ الذي وقع فيه الفرد، أو الضرر الذي أحدثه للآخر، فإنهً يساعد الفرد المعتذر على استعادة هويته بصورة متزنة، ويساعد الطرف الآخر على العودة إلى التفاعل من جديد والفرد ملزم بأن يقبل اعتذار من أخطأ في حقه، سواء كان هذا القبول صراحة أو ضمنياً بالعودة إلى موقف التفاعل من جديد. وكذلك يمكن للفرد أن يبدي عدم المؤاخذة، أو يقدم تبريرا لما اقترفه من سلوك مربك.
وفيما يتعلق بعدم المؤاخذة، فإن الفرد يعترف صراحة بأنه قد ارتكب خطأ أو انتهاكا معينا (تماما مثل الذي يعتذر) لكنه يحاول أن يقلل من مسؤوليته الشخصية عما بدر منه لم أستطع إخبارك بأنني سوف أتأخر عن الميعاد لأنني لم أجد تلفونا لأخبرك بذلك. أما عندما يقدم الفرد تبريرا لما اقترفه، فإنه يقبل بمسؤوليته عما حدث، ولكنه يقلل من شأن وخطورة ما اقترفه من انتهاك (لم) أستطع إخبارك بأنني سوف أتأخر عن الميعاد، ولكن على أي حال فالوقت أمامنا كثير لنتحدث فيما نريد. ويمكن كذلك أن يكون الضحك والدعابة أسلوبا فعالا في مواجهة وإدارة ما يحدث في الموقف الاجتماعي من اضطراب والابتسام والضحك استجابتان شائعتان في مواقف الإحراج والارتباك.
ويمكن للشخص المرتبك أن يستغل ما ينطوي عليه الموقف من أشياء يمكن أن المعروف ما إذا كانت فاعلية الدعابة والضحك تعتمد على طبيعة تثير الضحك، ويعتمد عليها لمواجهة المأزق الذي يعيشه. وليس من الموقف الاجتماعى محل الارتباك، أم على الخصائص الشخصية للفرد المرتبك، أم على براعة وظرف الدعابة المستخدمة. لكن الدعابة أو الضحك في هذه المواقف يمكن أن يقوم بأثره الإيجابى، ويملأ الثغرة المربكة في موقف التفاعل بأكثر من طريقة، فهو ربما يؤدي إلى تغيير بؤرة أطراف التفاعل وتحويلها إلى موضوع آخر، أو يوجه التفكير وجهة أخرى غير تلك التي أدت إلى الارتباك، أو يؤدي إلى حدوث بعض التغييرات الجسمية، لأن الضحك التلقائي يتضمن عمليات فسيولوجية مناهضة ومضادة لتلك التي تحدث للفرد عند ارتباكه.
اضافةتعليق
التعليقات