كان يسير على قدميه في تلك الأرض الموحشة، منهكا ، حزينا، تتملكه الحيرة، يجر قدمية بتثاقل هائل، مد نظره نحو السماء ، غمره صمت في داخله ، والحنين بدأ يطرق باب قلبه، فاغمض عينيه الدامعتين واندفعت دموعه كالسيل الهادر، رغم الجوع الذي يطعن معدته ويشل ذاكرته ، ظل صامتاً، رأى (نسيم) وجه المقاتل الحزين ، فمضى في طريقه وهو يذوب ويتلاشى خوفاً على حياة المقاتل ، محدثا نفسه (ترى ماذا يشغل فكر هذا المقاتل لم هو حائر ؟ يمشي وانفاسه تنقطع وبين الفينة والفينة يلتفت إلى جهة الخلف ، والخوف على زميله المقاتل يمزق شغاف قلبه، كان واقف أمام ساتر حديد رآه من قرب كان يبلغ الخمسين من العمر، متوسط القامة، أسمر اللون ويداه القاسيتان تمسك البندقية، ظل قلب (نسيم) يخفق من غير طائل وهو يقول في نفسه:( كن معي يا رب حتى أساعد هذا الرجل المقاتل).
وهو يدمدم شارداً ليس في رأسه غير صورة واحدة ، يحدث نفسه فيمتلئ سعادة، تطفر منه الروح إلى السماء التي تترامى له بحرا من الحشائش الخضراء، ، يرتعد هلعا ، ليجد نفسه في صحراء قاحلة،
(نسيم ) لم يبق أمامه إلا التقدم والتحدث مع هذا المقاتل ، رغم ذلك الخوف حاول وبكل ما أوتي من عناد وإصرار على المساعدة ولو انه لم يعرف عنه شيء حتى اسمه ، ولا يعرف شيء عن ذلك السر الذي جعله بهذه الحالة ، بعد برهة وجيزة ، أطلق نسيم السلام قائلا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أخي الكريم؟
المقاتل :وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أهلاً.
نسيم :حالك يقلقني أيها الأخ هل تحتاج إلى مساعدة ؟
المقاتل :ومن أين علمت أنني بحاجة إلى مساعدة ؟
منذ الصباح وانا انظر إليك حالك حال الفصول الأربعة ؟
المقاتل: لاتشغل فكرك..
نسيم :أخي الكريم نحن هنا في ساحة المعركة عائلة واحدة والعدو هو واحد لي ولك ، قل لي اذا كنت تحتاج إلى شيء ؟
وفي غمرة من الصمت احتضن المقاتل بين ذراعيه نسيم ، وهو يهتز من شدة التأثر، شكراً لك أيها الأخ..
وبين الفينة والأخرى تهب رياح خفيفة فتنشر في أرجاء الأرض اليابسة ،
والغيوم تركض مسرعة نحو الشمال، أسند رأسه على بندقيته، ثم يشد عليها بقوة، في هذه اللحظة سمعا صوت إطلاق نار ، فودعا بعضهما البعض بحزن، بعد تعارف قصير ، على أمل ان يلتقيان، المعركة لازالت مستمرة وأصوات الرصاص في كل مكان، الدخان المتصاعد إلى السماء ، يرسم خريطة وطن يحترق، نسيم يقاتل بعنف ليحافظ على وطنه، المقاتل الجنوبي يقاتل بغيرته وحرقة دمه تمزق البندقية ، والمقاتلين في الجبهة صراخهم كان يعلو في القتال لبيك ياعلي .. لبيك ياعلي..
في هدأة الليل، بعد ساعات طويلة من القتال ، يلقي المقاتلون اجسادهم المتعبة على الارض ويجعلون السماء غطاءا لهم في استراحة قليلة ، رغم تلك الطلقات والمخاوف.. لو صادف مرورك من تلك الأرض في تلك الساعة، لكنت شاهدت صفوف مرصوصة على الجبهة الصغيرة المجنحة، (نسيم) اليوم هو الذي يحرس القاطع ، اخذ يتجول ماشيا في ظلمة الليل ، يواصل سيره، يحدث نفسه وهو يسير ومن غير أن يكف عن اقتطاف الاشواك من الارض (الحرية، السلام ، الوطن ) يشف الكون من خفقات قلبه، يحني رأسه ليتجنب الأشواك تجنبا لسقوط أحد زملائه جريحا ، يلقي نظرات هائمة مليئة بالانتظار ، إلى تلك الأرض البعيدة المرعبة المتوشحة بسواد داعش ،جنود المقاتلين في استراحة والذين يحرسون القاطع هم اثنين فقط ،وصل (نسيم) الى صديقه الذي كان يراقب من بعيد اقترب منه وهو ما يزال يرتجف من البرد ، دار حول صديقه ثم قال له :هل ترى شيء ؟ يا عمار
عمار - قناص المعركة - أجاب: إلى الآن لم أر منهم أي حيوان ؟ تعال إلى هنا اجلس بجانبي, تأمل هذه السماء الزرقاء وهذه الارض وعلم الوطن يرفرف فوق رؤوسنا؟
نسيم : ربع ساعة فقط لا أكثر أريد أن استمر في الحراسة،
نعم ربع ساعة فقط يا نسيم ؟
جلسا في زاوية منعزلة , يتحدثون عن بطولاتهم اليوم ، يطردون عنهم الكسل والضجر الى وقت متأخر من الليل ،
لقد مضت ساعات طويلة، حين خرج (نسيم) متكئاً على عتمة الليل خائضا في الحفر التي خلفها القصف، بلله المطر تماماً، شرع يلتقط بطرف لسانه قطرات المطر الباردة ، ما يزال المطر يتساقط على ارض المعركة ، فتنشر في أرجاء الليل رائحة الباورود،
وصل (نسيم) الى المقاتل الجنوبي الذي كان يحرس العتاد بعيدا ، اقترب منه وهو ما يزال يرتجف من البرد ،وبالمحبة الحشديه صافحه وعانقه ، السلام عليكم..
وعليكم السلام ورحمة الله.
في الصباح تحدثت معك وقلت لك سنلتقي ثانية.
نعم شكرا لك ساعدتني في المعركة.
جلسا أمام الحطب المحترق ،
. نسيم: من أي محافظة انت ومااسمك
. المقاتل: اسمي هو كرار من محافظة الديوانية
نسيم: تشرفت بك صديقي.
انا نسيم من ديالى.
. المقاتل كرار: كلنا عراقيون وهذه أرضنا
نعم حقا يرد نسيم ،
حدثني عنك كرار..
يجيب كرار وهو يحتضن بندقيته ،
بعد قليل من الوقت ستشرق الشمس ،
نسيم يسأل كرار هل أنت متزوج؟
كرار بين حسرات وزفرات تخرج الكلمات نعم يانسيم متزوج..
هل عندك اولاد؟
أه يانسيم نعم لدي خمس بنات..
نسيم: خمس بنات ماشاء الله..!!
كرار: نعم خمس زهرات في حديقتي.. وانت يانسيم ؟
نسيم: لا لست متزوجا ،
يسأل نسيم عن مجيء كرار إلى المعركة تاركاً عائلته ؟
يقف كرار ويقول إني والله لست نادما على هذا المجيء إلى هنا بل كنت دائما ما أنتظره وأتمناه وأراه والله انها أعلى مراتب الشرف لي ولعائلتي ، وتلبية لنداء مرجعي ، ولست شاكيا أو متذمرا ، لا والله وإنما انا في شوق لقاء الشهادة ، تأخرت كثيرا وكل معركة اقول هذه الطلقة لي لكنها تريد أن تأخذ صاحبها فاظل حائرا ، وهذا هو حالي يانسيم ،
نسيم عجبا عجبا تشتاق لمنية تأخذك!
وكيف لا اشتاق وهي حبيبتي.
ماهي وصيتك يا كرار؟
وصيتي يا نسيم .. إلى عائلتي أولاً ، يحفظوا ايتامي ، ولا يقصروا بحقهم فإنهم ضعفاء من بعدي، وصيتي ثانيا إلى أبناء وطني الأوفياء، كنت قد عشت بينكم والكثير منكم كان لي عز و سند ، فأسر بمتعلمكم، واعتز بشهادتكم، وأضاهي بكم، أكتب هذه الوصية ، وأنا في خط القتال ، انتم تجلسون وتتحدثون مع عائلتكم ونحن شهور واياما لانعرف عنهم أي خبر، ولم يمنعنا من الاستمرار والقتال صابرين محتسبين ، إني الآن أسهر لتنامون وأقاتل لتسلمون وأشقى لتنعمون ولااطلب منكم الشفقه أو الرحمة، لا والله ..هذا واجبي و نداءً مرجعي .. وكل مااطلبه منكم هو رعاية ايتامي ووالدي الطاعن في السن العاجز عن المهن ، وختاما يا نسيم.. الله سبحانه وحده يعلم هل سأعود من خندقي هذا أم لا وإن كان أجلي قد حل وقد كتب الله أن أغادر هذه الدنيا في ساحات القتال ، سأكون محظوظ جدا عندما يكتب على قبري (هذا قبر الشهيد فلان) و ينادون بناتي (هذه بنت الشهيد فلان)
وانت يانسيم ماهي وصيتك ؟
نسيم يقف ممتليء قلبه إيمانا وحبا، يقف شامخا على أرض الوطن، ترك خلفه كل ملذات وشهوات الحياة قائلا: أنا يا كرار تلاشت كل عائلتي أصبحتُ وحدي أترقبُ ساعتي وموعدي المشهود، عائلتي قتلت على يد عصابات داعش ..ابي وأمي وإخوتي التوأم، أما أنا وبعض من شباب القرية كنا مخطوفين وتم تحريرنا بعد عدة أيام ، رأيت عائلتي تموت ، وأنا مكتّف ليس بيدي أي شيء سوى الصبر، صورهم لا تكف عن مطاردتي فأصيح في نفسي: لكن أين المفر؟ والكون يضيق بي..
وصيتي يا كرار اذا استشهدت قبلك ، اقرأ زيارة عاشوراء عند رأسي ، الحسين يستقبلني كما استقبل عائلتي ، تعلم يا كرار كم انا مشتاق إلى الشهادة كشوقي الى حضن أمي،
نظر إليه كرار مستغرباً ورأى في وجهه الحماسة والشجاعة ، انت تذكرني بعلي الأكبر
واذا استشهدت قبلك بلغ عائلتي السلام ، وإذا إستطعت أوصل جثماني إليهم ،انت ترى الحسين وانا ارى ابالفضل العباس وسنلتقي في ضيافة الزهراء عليها السلام ..هذا وعد يانسيم ...بدأت المعركة تشتد، توقف والتفت للوراء ، كرار ارتدى درعه وحمل بندقيته ، وبدأ يرمي على جهة العدو..
لحظة ما لامست حبات المطر وجه المقاتل نسيم، تنفس بعمق كمن نال مفتاح حريته، ورفع يده ورأسه نحو السماء الماطرة وأغمض للحظات عينيه، ثم ضغط على زناد البندقية..
قطع مسافة طويلة في القتال ، حتى نفد الرصاص من جعبته، كرار ابتعد عن نسيم مسافه لكن صوت رصاص نسيم يبشر على أنه على قيد الحياة..
القتال مستمر والشهداء يسارعون إلى جناتهم شوقا وحبا .. لم يعد صوت نسيم مسموع في الساحة .. وجز قلب كرار خيفة على نسيم نادى عليه في جهاز المناداة ...بدون جواب ..ماذا حصل؟ أين نسيم ؟
فتح صفوف المقاتلين بصعوبة شديدة يصل إلى مكان نسيم .. جهاز المناداة مرمى على التراب.. وهنالك بقعة دم حمراء كأنها بحيرة ساكنة..
تمزق قلب كرار ونزلت دموعه الساخنة، تعثر بقطعة من جسد ممزق ، قد تكون صدر أو قدم ..أو يد ..ماذا حصل ؟؟؟
جاءت القوات وتفحصوا المكان تبين أن هنالك عبوات مزدوجة في هذا المكان ، أحد المقاتلين الأبطال حاول ان يفك هذه العبوات لينقذ حياة زملائه المقاتلين، لكنها كانت مزدوجة انفجرت عليه ولم يبق من جسده سوى هذه القطعة.. وباقي الجسد تناثر في الهواء.. من هو هذا الغيور انه نسيم.. عريس الحشد الذي زفّ جسده كرار من ساحة المعركة إلى جنات الخلد لتقر عينه في جوار الحسين ، رفرفرت روحه بسلام وأمان . وتلك هي ملائكة الرحمة حوله برداء أبيض ، وحور العين.
أما كرار فاخذ يقاتل قتالا عجيبا ، مضى يومين على استشهاد نسيم..
أقبع كرار بين طياتِ الاشواق ، يوغلُ جسده ، يتعثرُ بالمشي.. المتسلقون نحو السماءَ يحلقونَ سريعاً ، أتت اللحظة فاخترقت عيناه - رغم ثقلهما- همس له..
يتأرجحُ دمعه الساخن ، تنزلق فوق خده تحرق لوعة في قلبه ، عويل لاهث يتهشم في صدره، ترتسم ابتسامة نسيم أمامه كل لحظة ،
عيناه الدامعتان ترمقان السماء.. لسانه يلهج بالدعاء..
يعود إلى القتال ، مفترشة الأرض بالرصاص ، لاشيء يثلج صدره ،
مازال الليل طويلا ، يأخذ استراحة قليلة بجانب الجدار ، يئن بلا انقطاع ، توضأ بكاسة ماء ، وبدأ يرتل القران ، ليبعث الطمنانية في قلوب المقاتلين ، ويشد من عزمهم..
قالها بحزم وإيمان ، و قال أيضا.. تاخرنا كثيراً عن القافلة..
انتهى من تلاوة القرآن العطرة مسك بندقيته ،ويردد(( نحن لانهزم ومنا عطاء الدم)).
رفع رأسه من الحاجز ، جمرة نار ضربت في رأسه ، ظل واقفاً ، صوت بندقيته على الارض.. نزل نهر أحمر من الرأس ، قناص استهدفه ، ضربه في رأسه ، كان حدسه صادقا ، فلمسه لمسة دافئة ، كان حلمه أن يكتب على قبره الشهيد.. نال الشهادة والتحق مع قافلة الحشد المقدس ، نعشه محمولا على أكتاف شباب المدينة وهم يرددون..
.. لا الله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله والشهيد حبيب الله
النساء تزغرد وهن يبكين ، يتلى صوت حزين فيه شموخ وكبرياء، وبعد عدة دقائق اُخرج النعش من المنزل يتقدمه أهل الشهيد، ثم حملوا النعش إلى المقبرة وقبل أن ينزلوه في القبر لوحت أمه يدها :( خذوا هذه العصابة ، قطعة قماش خضراء ، هذه القطعة مسحت بها كل شبابيك المراقد المطهرة ، ولفوا رأسه ، ولدي رفع رأسي ، اليوم انام قريرة عين لأنني قدمت فلذه كبدي فداء إلى مقدسات أهل البيت لا تبكوا ولاتصرخوا..
دعوا الشهيد يغفى بجوار العباس فهذه امنيته، بلغه سلامي ياولدي ).. احتضنت البنات الخمسة بين ذراعيها وقبّلتهم، جلسوا على قبره المكتوب عليه.. هذا قبر الشهيد
فلان.. أوقدت الشموع ، وسكبت ماء الورد على قبره ، غرست نبتة بجانب قبره..
لم تتوقف قافلة الشهداء عند كرار ونسيم بل الآلاف من الشباب المقاتلين الشرفاء يقاتلون بشرف وحماس.. منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومابدلوا تبديلا..
#ويبقى الحشد
اضافةتعليق
التعليقات