وارتحلت خديجة (عليها السلام) عن دنيا الوجود في مثل هذا الشهر، لقد أورث رحيلها غصة في قلب الرسول (صلى الله عليه وآله)، ومساحة فقدٍ في نفسه لا تُعوض أبداً، كان هذا الفقد يؤلم الرسول أيما ايلام، حتى أنه لا يبرح ذكرها وذكر فضائلها طيلة حياته الشريفة، ولعل الحديث المأثور عنه في حقها، دليلا ساطعا على عظمة شخصية الزوجة التي آزرته وساندته إبان الدعوة إلى الاسلام.
قال عنها رسولنا الكريم: (آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذّبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس).
ونحن نقرأ ما تيسر من سيرة هذه الزوجة الوفية، والمرأة التي خصها الله من عنده بالسلام والتحية، لا يسعنا كمؤمنين إلا أن نعظّم شأنها، كما عظمها رب الجلالة، وننظر إليها بإجلال وإكبار، ونتلمس خطاها في التضحية والوفاء والنصيحة لله سبحانه.
لقد كانت عظيمة في كل شيء.. عظيمة في عطائها الذي لولاه ما أرسيت دعائم الدين الجديد، ولا بُنيت قوائمه، ولا استطال بناؤه، لم تبخل على الدعوة بشيء من حطام الدنيا، فكل شيء في حساب المؤمن زائل لا محالة، إلا ما كان في خدمة الهدف الأسمى.
عظيمة في تحملها ارهاصات القوم، وأذاهم المستمر للنبي الكريم، فكانت تدفع عنه وتسلّيه وتبث العزيمة في كيانه، كي يمضي ويستمر في الدعوة إلى الحق الأعظم.
عظيمة في تحمّل المعاناة وشظف العيش في الشِعب الذي عانى فيه الرسول وأصحابه الأمرّين من التجويع والتنكيل والحصار الظالم من قريش، بعد أن كانت في بحبوحة العيش الرغيد.
ولما توفيت أمنا خديجة (عليها السلام)، جعلت فاطمة تتعلق برسول الله وهي تبكي وتقول: أين أمي أين أمي؟ فنزل عليه جبريل (عليه السلام) فقال قل لفاطمة: إن الله تعالى بنى لأمك بيتاً في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب. فقالت فاطمة (عليها السلام): إن الله هو السلام ومنه السلام وإليه السلام .
ودفنت خديجة بالحجون، ونزل في قبرها رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وأتساءل: هل سلم قبر أم المؤمنين خديجة من عبث العابثين وانتقام الوهابية، التي دأبت على هدم قبور الأولياء، وتحطيم آثارهم وطمس ذكراهم؟
الجواب: كلا.. لم يسلم قبر أم المؤمنين خديجة من الهدم والطمس، فقد أوغلوا في حقدهم الأعمى، وانتقامهم الأهوج.
(تقع مقبرة الحجون في مكة على يسار الذاهب إلى منى، وفيها قبور أجداد النبي (صلى الله عليه وآله)، والمشهور منها قبر جده عبد المطلب، وعمه أبي طالب، وزوجته خديجة (سلام الله عليهم)، وكان المسلمون منذ الجيل الأول يزورونها ويصلون ويدعون الله تعالى عندها، ويستشفعون إلى الله بأصحابها، وبنوا عليها قباباً).
إلى أن جاء الوهابيون النجديون صنيعة الإنكليز فهدموها بحجة أن زيارتها شرك.
فإذا أردنا نحن المسلمون أن نعظم شأن أمنا خديجة، ونلقّن الوهابية ومن على شاكلتها درسا في العقيدة، ليس أمامنا سوى أن نصل أم المؤمنين خديجة الكبرى بوقفة ولاء وعرفان تبقى ذخرا لنا في حياتنا وبعد مماتنا، فلابد من زيارة قبرها وعدم هجرانه، وخصوصا الحجيج والمعتمرون الذين يتوفقون لزيارة مكة، فقبرها (عليها السلام) موجود في مقبرة المعلا، والمقبرة ليست بعيدة عن بيت الله، وقبرها معروف هناك قريب من سفح الجبل... فمن أراد الزيارة فليتعنى لها.
فليس من العرفان نسيان فضلها وهجران قبرها، خصوصا لوفود الحجيج والمعتمرين.
وليس طبيعيا من مؤمن أن يقطع هذه المسافة الطويلة من بلده الأم إلى مكة المكرمة، ثم لا يتعنى لعشر دقائق في السيارة من مكان سكناه حول الحرم، ولا يزور قبر زوجة نبي الاسلام.
يذكر المرحوم عبد الأعلى السبزواري في كتابه (مهذب الأحكام) فيقول في أحد أجزاءه: (ومن البرِّ بأم المؤمنين خديجة بنت خويلد زيارة قبرها، فإنّ ذلك من حقوق الأم على ابنائها).
فإذا كنا نحن الاتباع نبغي صلة نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فلنزر قبر زوجته وأم ابنته الزهراء، ولندعو الله بفنون الدعوات عند قبرها الشريف، ولنعرب عن محبتنا لها، وندعو لها بعلو الدرجات.. فإنّ هذا من عناوين البر بأمّنا العظيمة.
اضافةتعليق
التعليقات