قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّـهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، كما تَبيَنَ لنا أن الخطاب في هذه السورة موجه لأهل الإيمان كي لا يكونوا من الغابنين لأنفسهم في ذلك اليوم الذي يُحاسب الإنسان فيه عما كان يعتقده وما قد عمله، فالمتأمل يجد أن الآية صنفت الناس وفق المعتقد [مؤمن-كافر]، ومن ثم وفق [العمل] إذ قالت الآية في تتمتها: {واللَّـهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، فالعمل هو الأساس الثاني الذي يتبع الاعتقاد، بالنتيجة يترتب عليهما أثر أن يكون هذا الإنسان من أي الصنفين؟
أما الخطوة الأولى للربح في ذلك اليوم فهي أن نتجنب الكون من صنف الخاسرين، والتي نجدها في هذه السورة فهي قدمت ذكر صنف الخاسرين لبيان خطورته وكثرت من يكون فيه، وذلك بقوله تعالى: {أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}، فهم -كما تشير الآية- عاشوا الخسران بالدنيا قبل الآخرة.
ثم ذكرت الأسباب التي أوصلتهم لذلك، إذ قال تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّـهُ وَاللَّـهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرٌ}.
فهم أولاً كانوا ممن لم ينجح في اختبار أن يكون المرسل الإلهي لهم هو بشر مثلهم
-وكما يعبرون- "أن النفس البشرية من الصعب عليها تقبل فكرة أن تكون هناك نفس من جنسها ونوعها أفضل منها، وعليها أن تخضع وتسلم وتطيع لها"، ولهذا بعض الأقوام نقرأ كيف أنهم كانوا يستنكرون هذه الفكرة أو لا يتقبلونها كما قال تعالى: {وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً}(الفرقان:٧).
إذن المعتقد والعمل الأول الذي أوصلهم للخسران هو {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا}، فهم عندما كان اعتقادهم عدم التصديق تبعه الفرار والابتعاد عن الرسل وما جاؤوا به من بينات تنجيهم.
وثانياً كانوا كما بقوله تعالى {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا}، من أهل الاعتقاد بعدم وجود يوم بعث بعد الموت يكون فيه حساب وجزاء، بل الآية قالت إنه مجرد زعم أي ظن لا دليل لهم عليه ولا يقين لهم فيه، بالنتيجة هذا الظن يتبع حياة بلا عمل لذلك اليوم.
لذا تعالى قال في نفس هذه السورة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ}، فهم ممن لا عمل لهم ليحاسبوا عليه أو ليخفف به عنهم هذا العذاب، فالنار هم أصحابها ومصيرهم فيها الخلود.
ولعل من أسباب ذكر هذين السببين بهذه الصورة -الترتيب- هو إن الايمان بوجود يوم يُبعث فيه الإنسان ليحاسب به، يجعله يتعامل بتعقل مع كل ما يرسله مالك ذلك اليوم، فيؤمن ويطيع ليكون من صنف الفائزين، فالظاهر أن سبب الخسران هو ارسال الرسل والكفر بها، لكن السبب الباطني هو الثاني، فالإيمان بالآخرة هو مفتاح كل معتقد سليم وعمل صالح.
بالنتيجة هذين السببين يجريان فينا إلى ماشاء الله تعالى، فالكثير الآن ممن لا يؤمن بحجة الله لهذا العصر والزمان فتولى عنه (عجل الله فرجه) لولاية شياطين الجن والإنس، والكثير ممن لا يزعم أن لا حياة بعد الممات فهم ممن يصدق عليهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ، أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}(يونس:٧-٨).
اضافةتعليق
التعليقات