كل إنسان تُلتمس فيه القوة، تلك التي يواجه بها الصعوبات والتحديات، ويسير من خلالها في حياته باستقامة وثبات، فمن يريد معرفة مصدرها ما هو؟ يجد إنها معتقد يؤمن به فهذه طبيعة الإنسان بشكل عام، وهكذا السيدة زينب (عليها السلام) هي النموذج للإنسانة القوية بعقيدة حقة وسليمة، ولهذا استطاعت أن تواجه طاغوت زمانها.
وهذه نقطة قوتنا نحن لو تأملنا في ما عندنا من مصادر قوة، فالإيمان بأن لنا قائد وإمام هو صاحب هذا العصر والحاكم في هذا الزمان هو ما يجب أن يجعلنا أقوياء، والسيدة تعطينا في خطبتها حقائق اربعة يملكها أهل البيت (عليهم السلام) بشكل عام، وإمام كل زمان بشكل خاص، وتنفي بلاءات أربع إمكانية سلبها منهم.
وذلك في هذه الفقرات التي قالت فيها: [فوَ اللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارها](١)، إذ لا يوجد موالي إلا وهو يرددها او يحفظها، إلا إننا قليلاً ما نتأمل فيها ونستخرج منها معرفة نتقوى بها لتكن سورا نحيط به قلوبنا من تقلباته.
ملاحظتان مهمتان:
الاولى: في هذه الفقرات لم تواجه السيدة طاغية زمانها بصفتها أخت مثكولة بأخيها وولدها، بل بمأمومة مسؤولة تدافع عن قضية إلهية، و تدفع الشبهات عن نهج إمام زمانها، وناصرة لحقيقة هي تؤمن بها، ولهذا فهي مصدر مهم وسلاح قوي لتكون لنا قوة نفسية تجاه ما نعتقده ونؤمن به، وقوة معرفية لنرى بها عظم ما نملك، وقوة ميدانية تجاه ما به نحن من الممكن أن نكلف.
الثانية: أن السيدة(عليها السلام) هنا لا تتحدث فقط بصفتها من هذا البيت الالهي بل أيضاً بصفتها مَن للإمام الحسين(عليه السلام)عليها حق الولاء والطاعة، فهو إمامها المعصوم بالمقام الأول، وهذا يفتح لنا معنى مهم من معاني علاقتنا وارتباطنا بإمام زماننا وهو كما قال تعالى على لسان نبيه: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}(إبراهيم:)٣٦، وهكذا كل موالي هو [مِن] إمامه الذي يتبعه، بهذا المعنى وبمستوى من المستويات التي تعتمد على درجة المعرفة وصدق الاتباع.
اللاءات الأربع في المعتقد الزينبي
السيدة (عليها السلام) هنا استخدمت لا النافية يسبقها قسم (فوالله)، أي هنا جزم في النفي وليس نفي فقط، أي هناك يقين تام بما تؤمن به وترتبط به، والذي هو جزء منها وهي جزء منه.
أللاء الاولى: في نفي محو الذكر، فمن معاني المحو هو إذهاب الأثر وإزالته، ونفي السيدة عنهم ذلك، لأن أثر الإمام المعصوم راسخ وثابت [فيهم] أي لا يمكن أن يوضع في غيرهم، و[لهم] أي سيبقى له الوجود ويُرى ما بقيت في عالم الدنيا حياة بل حتى في الحياة الأخرى الأبدية.
أما لمَ السيدة خصت نفي المحو للذكر فلعل في ذلك إشارةً إلى دورهم التبليغي التذكيري الذي هو امتداد لدور الرسل الإلهيين بشكل عام، و لأنهم امتداد للرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) بشكل خاص، فأهل البيت (عليهم السلام) كما نقرأ في الزيارة الجامعة الكبيرة [ذِكْرُكُمْ فِى الذّاكِرينَ]، فهذا الارتباط العميق والمباشر بالله تعالى هو ما جعل محو ذكرهم محال، لأنه عطاء إلهي اختصهم به.
والمعنى الآخر الذي يمكن أن نفهمه من نفي محو ذكرهم في قول السيدة هو يقين السيدة بوعد الله تعالى بأنه ذاكر من ذكره كما في قوله تعالى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة:١٥٢)، فكما يعبرون إن من مصاديق ذكر الله تعالى لعبد من عباده أن يخلد ذكره بين خلقه، أي يبقي أنواره و آثاره ممتدة جيلاً بعد جيل، فكلما كان ذكر العبد أعمق وأصدق في وجوده ، كلما كان ذكر الله تعالى له أدوم بين موجوداته.
اللاء الثانية: في محو أماتت الوحي، السيدة هنا تعد بوعد آخر استحالة أماتت ما لهم من كرامة بأن كل ما يصدر عنهم إنما هو إلهام إلهي، ووجه من وجوه الوحي السماوي، فالوحي الإلهي باقي ما بقي مُنزله سبحانه الحي القيوم، فالأرض لا تخلو من حجة الهية ذو العصمة الملهم والمعلم من قبل الله تعالى.
بل إن عبارة [تميت] إشارة إلى أن هذا الوحي الصادر منه تعالى [اليهم] والصادر [عنهم] للخلق من قول أو فعل هو كائن حي، فصفة الموت لا تطلق على الجمادات، فتعالى يعبر عن آيات كتابه الكريم بأنه {وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الشورى:٥٢)، وهم عدل القرآن وترجمانه، بالنتيجة حياتهم مرتبطة بالحي القيوم، لذا فوحيهم لا يموت بل حي ويحيي كل قلب يبحث عن الهداية، ويوقد شعلة كل ضمير يريد الاستقامة، ومنبه لكل عقل باحث عن الحق والحقيقة.
أللاء الثالثة: نفي إدراك امد وجودهم، فالسيدة(عليها السلام) تتكلم بعين البصيرة التي ترى بها المستقبل البعيد..
والبعيد جداً، حيث قيام دولة العدل الإلهي على يد خاتم الحجج الإلهيين، بل إن السيدة(عليها السلام) كشفت لهذا الظالم ضئالة حجم تطلعاته في التسيد فلا هو مدرك الآن أي دم سفك وبأي وهم أوقع نفسه، ولا هو ممن يمكن بفعله هذا أن يدرك آخر الزمان فيرى عظيم أثر هذا الدم، والذي واحدة منها سرعة اندثار وجوده هو الآن وفي الأمد البعيد، فذكره ووجوده هو الذي سيموت ويمحى.
أللاء الرابعة: نفي رحض عار ما فعلوا، فالسيدة(عليها السلام) بعد أن نفت بقاء أثرهم في ألاء السابقة، هنا تؤكد على أن حتى مع وجود المؤيدين لهم من أشياعه وأتباعه في القادم من الزمان فهم مهما حاولوا وكيفما ارادوا أن يغسلوا عار ذلك لن يتمكنوا، فإن بقي ذكر لهم فهو هذا العار الذي ارتكبوه، ولا شيء غيره.
بالنتيجة هذه الفقرات تعطينا سر من أسرار قوة هذه السيدة العظيمة، وهي سلام الله عليها تعطينا هذا السر لنقوى به ونزداد ثباتاً واستقامة تجاه ارتباطنا بأهل هذا البيت الالهي وتجاه إمامنا المغيب(عج) فلا ذكره سينقطع وإن غاب، بل نحن جزء من هذا الإبقاء، ولا خطهم ومنهجهم النابع من الوحي الالهي سيموت بل إمام الزمان هو عين الحياة.
———————
اضافةتعليق
التعليقات