نجري دون توقف راغبين في اكتساب المزيد دوماً.. مزيداً من السعادة، من الحب، من الشهرة، من المراتب العلمية، من الجاه، من المال، من السلطة، الأيام تتقلب على عجالة كما تتقلب الصفحات، ويبدو أن لا نهاية لهذا.
هذا السعي المستمر للتفوق والنجاح لا يصنف على إنه أمر سيئ إذ إن الرحمن بارك اليد العاملة وقدس العمل، إذ جعله شكلاً من أشكال العبادة، وخلاصة رحلة الإنسان هي السعي إلى الكمال - وهو لن يصل- لكن الاستمرار والمواصلة ترتقي به إلى أعالي الدرجات وتجعله إنساناً مسدداً بالقول والفعل.
إذن متى تبدأ المعاناة الإنسانية؟ وأين يحدث الخلل؟
(إنما الأعمال بالنيات) فالعمل بنواياه، وحين تكون نوايا العمل لا تتفق مع جوهره تبدأ أفظع العذابات البشرية التي يختار المرء أن يحبس نفسه فيها عمداً، فحين يطلب الإنسان العلم لأجل الرفعة أو المراكز العليا لا لأجل العلم نفسه فقد جعل ما هو ثانوي أساسي، وحين يعمل لأجل المال غير ملتفتاً لما يعمله فهو يهدر شهراً من حياته من أجل يوم واحد، وحينما يلتقي الأصدقاء لتحقيق المصالح لا لأجل رباط المحبة فقد أضاع وقته وجهده ومشاعره وكذلك فعل للآخر.
نعم، بالعلم تُنال الرفعة والمراكز العليا، وبالعمل يكفي الله البرية ذل السؤال ويقيم عماد بيوتهم، وبتعارف الناس تجري الخيرات ويُتبادل العون وتتم نعمائه، إلا إن ذاك نتاج عرضي، ولا يصح أن يكون ما هو عرضي أساس لتقوم عليه المعيشة وإلا لفقد الإنسان بهجة العيش وألوانه البراقة، فيصبح عندها الجري متعباً بلا معنى ولا فائدة.
إن ما يجعل الإنسان حياً من الأعماق هو أن تتطابق بواطنه مع أفعاله بنوايا غير مشوبة، فلا يتشوش فكره، ولا يضطرب جوفه، وهو يشابه بشكل من الأشكال ما يدعوه مفكروا هذا العصر بعيش اللحظة والاستغراق فيها، فهو المفتاح الحقيقي لاستعادة الإنسانية ولذة العيش وكل معاني الرضا، فالإنسان حين يركز على جوهر عمله لا ما يتفرع عنه من نتائج سيزهر الفرع تلقائياً وتمر الأيام مليئة بالمعنى غنية بالجدوى، سيكون قادراً على مواصلة الجري دون أن ينهك ودون أن يشعر بأنه في سباق للوصول إلى وجهة، فوجوده جارياً في المضمار هو النعمة الكبرى والهدف الأسمى للمعيشة.
اضافةتعليق
التعليقات